تفسير قوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه)
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨].
جاء هذا المخاصم المجادل في الله يضرب الأمثال ويقول: كيف نبعث وقد أصبحنا عظاماً نخرة فانية؟! فكيف يجمع الله خلقنا؟! ليس هذا بواقع هكذا يزعم الكفرة الجاحدون.
يقول ربنا عن هذا: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [يس: ٧٨] نسي كيف خلق، وذلك أعظم من إعادته، إذ الإعادة أهون من الابتداء، والكل هين على الله جل جلاله، فهو القادر على كل شيء، فهذا الإنسان نسي كيف خلق، وهو يعلم أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، ثم بعد ذلك تكون في رحم أمه، ثم بعد ذلك خرج وليداً ضعيفاً، لا يكاد يعي ولا يدرك ولا يعرف، ثم تدرج إلى يافع ثم إلى شاب ثم إلى كهل ثم إلى شيخ هرم، ثم يرد إلى أرذل العمر، ثم يعود إلى التراب كما جاء من تراب.
والقادر على خلق الإنسان أولاً قادر على إعادته.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بأن كل شيء من ابن آدم سيفنى وسيصبح تراباً إلا عجب الذنب، وعجب الذنب هو فقرة في آخر العمود الفقري، فهذه الفقرة لا تفنى، وهي بذرة بشرية، فعند النفخ في الصور النفخة الأخيرة يسقي الله الأرض مطراً، وإذا بهذا الإنسان يصبح بشراً سوياً كما كان، ويصبح ناظراً إلى آخرته، ويذهب إلى العرض على الله وإلى الحساب، فإما إلى جنة وإما إلى نار.
يقول تعالى: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] أي: رميمة، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٨] أي: ما كانت بغية.
وسبب نزول هذه الآية هو أن العاص بن وائل -والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- جاء إلى رسول الله ومعه عظم، فأخذ يفته ويذروه في الهواء، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتزعم أن ربك يحيي هذا العظم وهو رميم؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سيميتك ثم يبعثك ثم يدخلك النار)، ومات مشركاً، فمصيره إلى جهنم وبئس المصير.
قال تعالى: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٨ - ٧٩].
قل -يا رسولنا- لهؤلاء الجاحدين: يحيي هذه العظام الذي أنشأها أول مرة.
وهذا ضرب من القياس، حيث قاس الله خلقنا مرة ثانية على خلقنا أولاً، ففي البداية أنشأ خلقنا على غير مثال سابق قبل أن يكون، ولم يكن شيئاً مذكوراً.
فهؤلاء الملاحدة قالوا: كيف نحيا بعد أن نكون رمماً، وهل سيعود آباؤنا؟ فكان الجواب لهم ما علمنا الله أن نقول، وهو جواب بمنطق العقل، ومنطق الوعي والإدراك: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩] أي: بعد أن لم تكن، فإذا كان الله قد خلقنا على غير مثال سابق، فهو جل جلاله أقدر على أن يحيينا مرة ثانية.
قال تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٩] فهو العليم بجميع خلقه؛ لأنه خالقهم، والكل خلق الله، والكل سيفنى، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨].