تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد)
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ [ص: ١٢ - ١٤].
هؤلاء الذين كذبوا وكذّبوا، وكفروا ونشروا الكفر وجحدوا وأصروا على الجحود، وآبوا إلى من سبقهم من أئمة الكفر، فكفروا كفرهم، ونشروا ضلالهم، وكانوا عوناً على الأنبياء للكافرين، هؤلاء يقول الله عنهم منذراً ومهدداً: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ [ص: ١٢ - ١٤].
يقول جل جلاله معلماً ومبلغاً رسوله صلى الله عليه وسلم: لقد كفر وكذب الذين من قبلكم، وكانوا أقوى منكم سلطاناً، وأكثر جنداً، وأغنى مالاً، وأطول حياة، وأعظم حضارة، فكذب قبلهم قوم نوح الذين عاشوا ألف سنة أو ألفين، واستمر نوح يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك أبى الله جل جلاله بعدما أملى لهم وأمهلهم إلا نهايتهم وإغراقهم بالطوفان، فلم يبق منهم إلا من آمن، وما آمن مع نوح إلا قليل.
فقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾ [ص: ١٢] أي: قبل هؤلاء الأحزاب من كفار الناس عرباً وعجماً الذين دعاهم رسول الله ﷺ إلى الله وإلى الإيمان به، ولكنهم أصروا على الكفر والجحود.
قوله: ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ [ص: ١٢].
كلمة (قوم) مذكرة، وكذبت: مؤنثة، وروعي فيها المعنى، أي: عشيرة نوح أو قبيلة نوح أو طائفة نوح، وما كان كذلك يذكر ويؤنث فيقال: كذب قوم نوح وكذبت قوم نوح.
قال تعالى: ﴿وَعَادٌ﴾ [ص: ١٢].
ومعلوم حال عاد، فقبائل عاد كانوا أقوياء الأقدام طوال الأجسام وكانوا عمالقة، ولا يزال بعض ذلك يوجد في مأرب، ويوجد حفائر في بلاد العرب والجزيرة، بل ومثل ذلك في جميع بقاع الأرض تركه الله أثراً من آثار أولئك، ومنذراً لمن فعل فعلهم أن يعاقب عقوبتهم وأن يدمر دمارهم، وأن يهلك هلاكهم.
قال تعالى: ﴿وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ﴾ [ص: ١٢].
فرعون الذي قال يوماً: أنا ربكم الأعلى، ومن غريب أمر الفراعنة أن فرعون يدعي الألوهية، وفرعون آخر يذل لليهود فيبيع دينه وكرامته وشرفه ووطنه وقومه، وشأن فرعون أن يدعي الألوهية لا أن يكون عبداً لليهود الذين صاروا قروناً عبيداً لآبائه وأجداده، وفرعونية هذا العصر فرعونية ذل وهوان، ليست دعوى ألوهية ولكن دعوى اليهودية والذل والهوان، والكل يلقى عقابه ويلقى جزاءه، ولجزاء الله أشد وأنكى.
ففرعون موسى قال: أنا ربكم الأعلى، وقال: ما علمت لكم من إله غيري، وكان له أوتاد ينصبها يعذب بها الناس، فيربط الأيدي والأرجل، ويعذب هذا الذي يريد أن يعذبه ولا يؤمن بألوهيته وتسلط عليه العقارب والحيات والهوام، وهو يتضاحك بعذابه، يربطه بالأوتاد إلى أن تنفصل أعضاؤه بعضها عن بعض، تقول العرب: فلان ذو أوتاد أي: ثابت وقوي وذو سلطان وذو بهاء، وذو طغيان وجبروت، وكل ذلك يمكن أن يطلق ويفسر به الآية الكريمة، فلقد كان فرعون -وحدث عن بني إسرائيل ولا حرج- من الظلم والأذى والطغيان والجبروت على الخلق حتى أذله الله وأهانه وأغرقه، وبقي جسده عبرة لمن يعتبر إلى عصرنا هذا.
قال تعالى: ﴿وَثَمُودُ﴾ [ص: ١٣].
أي: وثمود قوم صالح كانوا أصحاب طغيان وحضارة وغنىً، فازدادوا كفراً بذلك ولم يشكروا النعمة، ولم يحمدوا ربهم فعاقبهم الله بما عاقبهم.
قال تعالى: ﴿وَقَوْمُ لُوطٍ﴾ [ص: ١٣].
عندما نشروا الفاحشة التي لم يسبقوا لمثلها من الاستغناء بالذكران عن النساء، وحاولوا بكل فسوق أن يلوطوا بالملائكة عندما تشكلوا إنساً، فما كان من الملائكة إلا أن أشاروا إليهم فصرفت أبصارهم عنهم، وجاء عذاب الله من فوقهم ومن تحتهم، وقذفوا بحجارة من نار، ورفعوا إلى أن سمعت الملائكة في السماء صياح ديكتهم ونهيق حميرهم، ثم قلب جبريل أرضهم أرض سدوم عاليها سافلها، ولا تزال آثارها إلى اليوم وهو ما يسمى بالبحر الميت، وهذا تصديق لما نزل على نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
قال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ﴾ [ص: ١٣].
الأيكة: الغابة الكثيفة، وهم قوم شعيب، وقيل: كانوا مستقيمين ثم كفروا وكذبوا نبيهم شعيباً فانتقم الله منهم.
فهذه الأقوام كلها قال الله عنها: ((أولئك الأحزاب))، أي: أولئك هم الأحزاب في طغيانهم وقوتهم وشدة بأسهم، لا هؤلاء الذين ما حكمهم حاكم يوماً ولا اجتمعت لهم كلمة، ولا نصبت لهم أمة، ومع ذلك أبوا إلا الكفر بسيد الأنبياء وإمام الخلق صلى الله عليه وسلم، وما خافوا ولا هابوا عذاباً ولا عقوبة، فهؤلاء كانوا أفضل منهم جاهاً وسلطاناً وأعماراً وأبداناً، ومع ذلك لم يفلتوا من العذاب، وما عند الله أشد وأنكى.
قال تعالى: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ [ص: ١٤].
(إن) معناها: ليس أو ما، فإن: نافية أي: ما كل هؤلاء، قوله: ﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ [ص: ١٤] أي: وجب عقابهم ودمارهم وهلاكهم، ولقد فعل ربنا ذلك فمضت الأزمنة والأعمار وقصصهم لا تزال تذكر في كتاب الله عبرة للمعتبرين.
وكثيراً ما يتساءل بعض الجهلة الذين درسوا على أيدي اليهود والنصارى وفي جامعاتهم ويقولون: نحن نؤمن بإله واحد، ولكن لا نؤمن بالرسل، ولكن الله يخبر أنه عذب قوم نوح ومكر بهم وبقية من ذكر؛ لأنهم كذبوا رسلهم، كذبوا نوحاً وهوداً وصالحاً ولوطاً وشعيباً والأنبياء السابقين، فكانوا لتكذيبهم رسلهم استحقوا العذاب في الدنيا، وعذاب الله أشد يوم القيامة.
وعلى ذلك فلابد من الإيمان بالله واحداً وبالرسول المبعوث مرسلاً، فنبينا قد بعث للعرب والعجم فهو نبي الخلق جميعاً، وهو الرسول الخاتم الذي لا نبي بعده ولا رسول، كذلك الإيمان بالإله الواحد جل جلاله لا يكون إلا عن طريق الأنبياء؛ لأننا وجدنا من يدعي أنه يؤمن بالله فتراه يعبد حجراً أو يعبد ملكاً أو يعبد حيواناً.
فنحن عندما نؤمن بمحمد سيد البشر ﷺ فعنه تعلمنا التوحيد؛ لأن ربنا جل جلاله لا يشبه أحداً من خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، فكل ما يخطر على بالك فربنا مخالف له، فهو الواحد صفةً وأفعالاً وذاتاً جل جلاله وعلا مقامه، وهكذا فإن الطرق مسدودة مغلقة إلى الإيمان بالله إلا عن طريق محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.


الصفحة التالية
Icon