تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس)
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٦ - ٥٧] يقول الله: واذكر يا محمد! في القرآن الكريم المنزل عليك إدريس، وإدريس هو جد والد نوح عليهما السلام، وهو أول من خط بالقلم، واخترع الكتاب، والكتابة وما تشمل من خزن المعاني هي في حد ذاتها تكاد تكون نبوءة قائمة بنفسها ورسالة مستقلة، فهذه الشرطات على الورق تشمل كل شرطة معطوفة وملتوية ومنحنية ومرتبطة بغيرها جميع المعاني التي كانت في الكون من قبل.
فتجد الإنسان يولد في حقبة من الدهر، ثم يعمر بضع سنوات وتجده إذا أكرم بالتعلم والقراءة والكتابة يلازم قراءة الكتب ومطالعتها، وإذا به يعيش مع الأولين والآخرين، ومع الكون قبل أن يكون ومعه بعد فنائه، ومع أنبياء الله ورسله الصالحين، ومع الجبابرة والطغاة الجاحدين، كل ذلك وهو لم يجاوز مكانه ولم يخرج عنه.
فكان إدريس أول من اختط بالقلم، وأول من عُني بعلم الحساب وعلم النجوم، وأول من عني بلبس الثياب الصوفية والقطنية وأول من خاطها، وكان الناس قبله شعوباً بدائية كالإفريقية اليوم، وكهؤلاء الأقزام الذين يوجدون في أشتات من الأرض يلبسون جلوداً على أبدانهم أو أجزاءً من أبدانهم أو على عورتهم: القبلية والدبرية فقط، وهكذا كانوا قديماً.
ولكن إدريس حضرهم وعلمهم، فاخترع لهم القراءة والكتابة، ونبههم إلى أخذ الثياب من القطن والصوف، واخترع لهم خياطتها ولبسها، ونبههم إلى علم الحساب وإلى علم النجوم، وإدريس نبي من أنبياء الله العظام، وكان ما تعلمه توقيفياً، أي: بوحي من الله لتعليم خلقه وعباده ما يعود عليهم بالخير العميم في حياتهم ومستقبلها.
قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٦] فصديق صيغة مبالغة من كثرة الصدق، أي: كان صادقاً في كل كلامه وإشاراته ومعاركه، وكان لا يخطر على باله أن يقول ما ليس بواقع لا إشارةً ولا تلميحاً، ولا تصريحاً من باب أولى.