تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك نبأ الخصم)
قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: ٢١ - ٢٣].
يقص الله علينا جل جلاله قضية حكم فيها داود، وكانت تعريضاً بفعله، يقول الله لنبيه: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ﴾ [ص: ٢١].
ومن أين يأتي نبأ هذا الخصم إلا من الله جل جلاله، فهو أُمي لم يقرأ في كتاب، وإنما علّمه الله بحكمته ووحيه، فكان أعلم أهل الأرض متقدمهم ومتأخرهم إلى يوم القيامة، وكما قال الله له: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣] كفاك بالعلم في أمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم فأعظم المعجزات أن يضعوك بين أمة جاهلية لا تعلم القراءة، ولا تدري ما الكتابة، فهو يعلم علم الأولين، ويعلم بينهم علم الآخرين.
قوله: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ﴾ [ص: ٢١].
هذا استفهام تقريري يذكره الله تنبيهاً له ليسمع ما يوحى إليه، وما يذكر لأتباعه من المؤمنين، أي: هل وصلك يا محمد خبر الخصم؟ والخصم: كلمة تدل على المفرد والمثنى والجمع، وعلى المؤنث والمذكر، يُقال: هذا خصم، وهذان خصم، وهؤلاء خصم، ولذلك رجع الضمير إلى جماعة فقال: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا﴾ [ص: ٢١] أي: الخصوم إذ صعدوا إليه وتسلقوه.
وقد قسم داود عمله في حياته على ثلاثة أيام: يوم لعبادة الله، فيبقى في محراب بيته ومسجده للعبادة، وتدبر التوراة، وتلاوة الزبور، والتسبيح والتمجيد والتعظيم، ويوم للفصل والقضاء بين الناس، ويوم لمشاغله الخاصة ولنسائه أي: للدنيا.
﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ [ص: ٢٢].
جاء رجلان إلى الحرس على أبواب داود وطلبا من الحرس أن يدخلا على داود ليفصل بينهما في قضية، فقال الحرس: ليس هذا يوم القضاء وإنما هذا يوم عبادة داود.
وإذا بالرجلين يتسوران حائطاً ويصعدان فيه ويقفزان إلى داخل الدار فيدخلان على داود في محرابه، فعندما رآهما فزِع واستغرب: كيف دخل هذان عليّ في يوم عبادتي؟! وكيف لم يمنعهما الحرس؟ ﴿قَالُوا لا تَخَفْ﴾ [ص: ٢٢] لأنا لم نأتك سُرّاقاً ولا قتلة، وإنما أتينا خصوماً ﴿قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ [ص: ٢٢] إنما نحن شخصان تخاصما واختلفا على حق من حقوق الدنيا.
قوله: ﴿خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ [ص: ٢٢] أي: ظلم بعضنا بعضاً وطغى عليه وغصبه حقه.
﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ﴾ [ص: ٢٢] من الشطط وهو الابتعاد، أي: لا تبتعد بنا عن الحق، ولا تتجاوز الحق في الحكم بيننا، والمعنى: لا تكن ظالماً ولا تحكم لأحدنا على الآخر باطلاً، بل أد الحق لأهله، فنحن قد رضينا حكمك.
﴿وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ [ص: ٢٢] أي: بيّن لنا وأنر لنا الصراط السوي والحق البيّن الذي لا شطط فيه ولا زيادة ولا نقصان اهدنا إليه وعلّمناه ووفقنا له فنحن راجعون إلى حكمك.