تفسير قوله تعالى: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة)
ثم ذكر الخصوم قال أحدهما وهو المدّعي: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: ٢٣].
أي: هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، وأنا لي نعجة واحدة، فطلب مني أن يأخذها وينفق عليها ويرعاها ويقوم بها.
قوله: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: ٢٣].
أي: تعالى وتعزز عليّ، فلم يقبل كلامي وترفع عليّ واحتقرني، وإذا بداود يحكم: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ [ص: ٢٤] حكم بظلم هذا الذي طلبه كفالة تلك النعجة إلى نعاجه فقال: إنه ظالم.
﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [ص: ٢٤] الخلطاء: الشركاء الذين يخلطون أرزاقهم وشركتهم بعضها ببعض.
قوله ﴿لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [ص: ٢٤] أي: ليظلم بعضهم بعضاً من البغي والظلم والاعتداء.
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: ٢٤] أي: إلا المؤمنين بالله، القائمين بالصالحات، وقد يكون هناك مؤمنون يبغي بعضهم على بعض، ويأكل بعضهم حق بعض ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: ٢٤] وهؤلاء المؤمنون العاملون الصالحون قلة بين الشركاء في شركاتهم وأموالهم ومعاملاتهم.
وإذا بالشخصين والرجلين يتضاحكان ويقول أحدهما للآخر: لقد حكم الرجل على نفسه، وإذا به يفتقدهما وقد طارا، فلا يجد أحداً منهما، ما القصة؟ قال الله بعد ذلك: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [ص: ٢٤] عندما قالا ذلك انتبه أن هذه خصومة ليست كالخصومة، هذان رجلان غريبان أتيا ليقرّعانه ويؤدبّانه على شيء قد صدر منه هو فقال بعضهم لبعض: لقد حكم الرجل على نفسه، واعترف بأنه هو الذي سرق، وهو الذي طمع وأراد ضم واحدة إلى تسع وتسعين.
قوله: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ [ص: ٢٤] الظن هنا بمعنى التحقق.
قوله: ﴿فَتَنَّاهُ﴾ [ص: ٢٤] أي اختبرناه وابتليناه.
يقول الله جل جلاله: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [ص: ٢٤] عندما قال أحدهما للآخر: لقد حكم الرجل على نفسه ثم طارا ولم يُريا بعد ذلك علم أنهما ملكان أتيا ليؤدباه بأمر الله على ما صدر منه ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ [ص: ٢٤] أي فأخذ يستغفر ربه من ذلك مسبّحاً وممجداً ومعظماً ومعه الجبال والطير والدواب.
﴿وَخَرَّ رَاكِعًا﴾ [ص: ٢٤] أي: خر ساجداً لله، يُقال: سجد وركع والمعنى واحد، والبعض فهمها على ظاهرها فقال: يكون السجود ركوعاً بمعنى: سجدة التلاوة يكفي فيها الركوع كما هو هنا، وهذه السجدة ليست بلازمة، وإنما هي مستحبة، فعلها ﷺ وتركها، والسجود فيها إنما هو مذهب أبي حنيفة ومالك، وأصحاب المذاهب الأخرى على خلاف ذلك، فكان هذا سجوداً وركوعاً لله، وتوبة واستغفاراً مما صدر عن داود، وما الذي صدر؟ فسّرت الآية كما تدل عليها مدلولاتها، ولكن جميع قصص أنبياء بني إسرائيل (٩٩) بالمائة منها إسرائيليات مروية من التوراة، ومن كتب بني إسرائيل، وما أكذبها وأكثر ضلالها وزيفها! وقد تسرّب بعض ذلك في دفاترنا عن يهود أسلموا أو تظاهروا بالإسلام كـ كعب الأحبار ووهب بن منبه وكان ابن عباس كثيراً ما يسمع عن كعب ويروي، فرويت أحاديث مرفوعة وموقوفة وأسانيدها ليست بالصحيحة؛ اعتلالاً في الطرق، وتجريحاً للرواة والرجال، ولكن داود قد صدر عنه شيء، فما هذا الشيء؟ على عادة بني إسرائيل فإنهم يجرّحون أنبياءهم، فيذمون سليمان ويتهمونه بالفواحش والمنكرات حتى بالمحارم، ومعاذ الله من ذلك، وإننا لنقدس ونجل أنبياءهم الذين ذكرهم الله في كتابه أكثر مما يجلّونهم هم، ونحن نقول بعصمة الأنبياء فلن يذنب نبي، ولا يصدر عن رسول ذنب يؤاخذ به إلا ما يمكن أن يكون ذنباً في شريعة وغير ذنب في شريعة أخرى، فذاك لا يُعد ذنباً.
والقصة كما يزعمون في الإسرائيليات وفي التفاسير، أما ابن كثير فألغى ذلك ولم يذكره، والقرطبي ألغى ذلك ولم يذكره، وذكره البغوي قبلهم وقال: بأن داود أشرف مرة من سطح بيته أو نافذة بيته فرأى امرأة على سطح تغتسل عُريانة، فعندما رآها فُتن بها، وانتبهت له فسترت نفسها بشعرها، فسترها الشعر في جميع جسدها فازداد بها فتنة، وسأل من هي؟ فقيل: هي زوجة أوريا أحد ضباط جيشه، وزعموا أنه أرسله إلى القتال، فرجع حياً، فأرسله مرة ثانية فرجع حياً، ثم عاد فأرسله فقُتل، فتزوجها.
وهذا لم يصدر عن نبي الله داود ولكن اليهود حسب إفسادهم ونفوسهم المريضة يتصورون أنبياءهم على شاكلتهم، وجعلوا من الفساد والإفساد ديناً، وهكذا التوراة مليئة بذلك: بقتل الأنبياء، وذكرهم بالفواحش والمنكرات، بل بالكلام في الله والكذب عليه جل جلاله وعز مقامه.
وقالت رواية: بل رآها وأرسل إلى أوريا وقال له: تنازل لي عن زوجتك، قال: يا نبي الله! لك تسع وتسعون زوجة ولي زوجة واحدة وتطمع فيها؟! قال: زوجنيها، فأجبره فتزوجها.
وقالت رواية عندنا: رأى شيئاً وحدّث نفسه، وحديث النفس ليس ذنباً، أما أنه أرسل أوريا للقتل أو طلب من أوريا أن يتنازل له عن هذه الزوجة فلا! فلم يصدر هذا عن نبي، ولا عن مؤمن تقي فكيف بالنبي؟! وإنما حدّث نفسه وشغل نفسه بذلك، وقبل أن يصدر ذلك عنه امتحنه الله واختبره بأن أرسل إليه ملكين يطلبان حكمه وقضاءه في اليوم الذي لا يخرج فيه عن معبده ومحرابه.
فعندما دخلا وقالا: ﴿بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ [ص: ٢٢] والملائكة لا يبغي بعضها على بعض ولكنه ضرب مثال، وليس الأمر منهم واقعاً وإنما ضربوا مثالاً له؛ ليأخذ الحكمة من ذلك، ويتنبه ويتوب إلى الله، فعندما حكم قالوا: لقد حكم الرجل على نفسه؛ إذ هو الذي طلب، وهذا المعنى يؤكده سياق الآية: ﴿خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ [ص: ٢٢] إلى أن ذكر ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾ [ص: ٢٣] أخوه في الملائكية وفي الخلقة النورانية ﴿لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ [ص: ٢٣] وهو بذلك لم يذكر المرأة، ولكن أراد أن يضرب المثل.
﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾ [ص: ٢٣] معناه: أن داود خطر بباله أن يفعل، ولكنه لم يفعل، ولا يفعل ذلك رجل صالح فكيف بنبي معصوم؟ ولكن اليهود المفسدين يتصورون ذلك.
فعندما شعر داود بهذا ندم وتاب، وهي إنما كانت خواطر نفس، وتقول الحكمة عند أهل الآداب والرقائق: حسنات الأبرار سيئات المقربين، المقرب لله أكثر من المبعد، فلا يليق به حتى أن يحدث نفسه بهذا، فكيف يخطر له بالبال؟! والخواطر لا حكم فيها حتى في شريعتنا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).
فمن حدّث نفسه بالسيئة ولم يفعلها كتبت له حسنة، فإذا فعلها كتبت له سيئة، فإذا تركها خوفاً من الله كُتبت له عشر حسنات، وأن الخوف من الله في حد ذاته عبادة وحسنة.
﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ [ص: ٢٤] أي: أخذ يجأر بالاستغفار ويطلب من الله أن يغفر له خواطر نفسه، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب، وقيل: بقي أربعين سنة ساجداً وهو يستغفر الله بمختلف أنواع وألفاظ الاستغفار ويبكي، حتى قيل: إنه نبت حوله حشيش من شدة بكائه، وطول سجوده، وبقي كذلك يبكي على خطيئته، ويستغفر ربه، ويخاف ألا يغفر له إلى أن مات.
وقد قالوا أكثر من ذلك، فقالت اليهود وزعموا: أنه قتل أوريا لأجل زوجته حينما استغفر ربه، قال له: إذا غفر لك أوريا، قال: وكيف سيغفر لي أوريا؟ قال: اذهب إلى قبره واستغفره فسأعيد له روحه، فذهب داود ونادى: يا أوريا! فأجاب، قال: من أنت؟ قال: أنا داود، قال: ما تريد يا نبي الله؟ قال: أن تستغفر لي، قال: غفر الله لك، فرجع فقال ذلك لربه، فقال: هل ذكرت قصتك مع زوجته؟ قال: لا، قال: ينبغي أن تذكر قصتك مع زوجته، فرجع إليه فقال: يا أوريا! هل استغفرت لي؟ قال: قد فعلت، قال: إنني كنت قد أرسلتك للمعركة أولاً وثانياً وثالثاً إلى أن مت وأخذت زوجتك، وما كنت أريد إلا ذلك فاستغفر لي؟ فسكت، فكرر، فسكت، فرجع يبكي إلى ربه قال: سأوعده يوم القيامة، وقد قالوا بعد ذلك: إن الله عوضه الجنان وحوراً عيناً وغيرها.
وهذه قصة إسرائيلية اختلط باطلها بكذبها ودسها، بما لا يعتبر إلا طعناً في الأنبياء ونقصاً لهم.