تفسير قوله تعالى: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه)
قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: ٤١].
أيوب نبي من أنبياء بني إسرائيل، وزعم بعضهم أنه رومي وليس كذلك، ولم يؤمن به إلا ثلاثة أفراد، زوجته وصاحباه، وهو ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من أن الأمم تعرض عليه يوم القيامة، فيرى النبي ومعه الفئة الكثيرة، والنبي ومعه الجماعة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، ومنهم أيوب.
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: ٤١]، قصة أيوب قصة مؤلمة حزينة مبكية، نعوذ بالله من العذاب، ونسأله ألا يختبرنا جل جلاله.
لقد كان أيوب في ملك وغنىً وجاه عظيم، وكان عنده نساء بالعشرات، وأولاد كذلك، وحشم وخدم، ودور وقصور، ومزارع وجياد وخيول ودواب، وإذا بالله يبتليه ويختبره بشيء من المرض والنصب والمشقة والمحنة، والعذاب بأشد أنواعه، فماتت نساؤه، وفقد أولاده، وذهبت قصوره، ومرض في جسده، ولم يسلم من المرض إلا عيناه ولسانه وقلبه، ولم يبقَ في الجسم موضع ثقب إبرة إلا وفيه مرض لو كان في غيره لمات فجأة، وهو في كل ذلك صابر، إلى أن مضت عليه ثماني عشرة سنة، فكان لسانه مع كل هذه الحالة رطباً بذكر الله، وكان قلبه عامراً بذكر الله جل جلاله، وإذا عجز عن الركوع والسجود والقيام فلسانه لم يعجز عن ذكر الله، وإذا عجز عن العمل لله لا يعجز قلبه أن يعمره ويملأه بذكر الله.
وبقيت له امرأة واحدة من نسائه، فمله الناس ورموه خارج القرية ينتظرون موته صباحاً أو مساءً، وكانت هذه المرأة توضئه بأشنان، وكانت تخدمه مع خدمتها للناس، فتخدمه صباحاً ثم تذهب لتخدم الناس، وتأتي لتخدمه مساءً، فتطعمه وتغسله وتكسوه، إلى أن جاءت يوماً وكانت ذات ضفائر، وإذا بها قد قصت ضفائرها لأحد الخبازين أبى أن يطعم زوجها نبي الله خبزاً إلا إذا قطعت ضفيرتيها؛ لتستعملهما زوجته أو ابنته ففعلت، فآلم أيوب أن يصل حاله إلى أن يعيش ويأكل الخبز الحار بضفيرتي زوجته، فأقسم أن يضربها مائة ضربة، وهي كذلك صابرة محتسبة راضية بقضاء الله، وكانت شديدة الشفقة والحنو على أيوب طوال هذه السنوات الثماني عشرة.
وهناك رجلان ممن آمنا بأيوب قال أحدهما للآخر: يا فلان تعلم أن أيوب لابد وأنه أذنب ذنباً ما أذنبه أحد في الأرض، فابتلاه الله بما ابتلى، وأمرضه بما أمرضه، وسلط عليه أنواع البلاء ظاهرها وباطنها، ولم يغفر له.
وأيوب كل هذه السنوات الطوال ما دعا الله أن يرفع عنه البلاء، ولو دعا الله لاستجاب له، فهو صابر محتسب، فأحد هذين الرجلين جاء إلى أيوب وقال: يا نبي الله: إن فلاناً أخي قال عنك إنك أذنبت ذنباً لم يغفره الله لك خلال هذه السنوات الطوال، وإنك استغفرت فلم يغفر لك، ولم يرفع عنك البلاء، فحين وصل الحال بأيوب إلى هذا رفع صوته لله ضارعاً مستغيثاً: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: ٤١].
ومن أدب المؤمن أن ينسب لله كل خير، وأن ينسب للشيطان كل شر؛ لأنه إن كان ذلك ذنباً قد صنعه فهو من وسوسة الشيطان إليه، وكأن الشيطان هو الذي صنع به ذلك.
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ﴾ [ص: ٤١] أي: بمحنة وعذاب وبألم ومشقة، وقد ذهب المال والولد، وإذا بالله يستجيب له بمجرد دعائه، فقال له: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ [ص: ٤٢] أي: ادفع الأرض برجلك، ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: ٤٢] فركل أيوب برجله الأرض وإذا بالعين تنبع، فيغتسل فيها، وكان ماء بارداً شافياً، فذهب هذا الماء الذي غسل به جسده بكل أمراضه وبكل قروحه، وبكل أوجاعه الظاهرة، وبعد ذلك أمر بأن يركض الأرض برجله مرة أخرى، فنبعت عين ثانية فأمره الله أن يشرب منها، فشرب وإذا بهذا الماء أخرج جميع ما في باطنه من أدواء وأمراض، فشفاه الله شفاء كاملاً في ظاهره وباطنه.
فقوله: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: ٤٢] أي: هذه للاغتسال وهذه للشراب، فالعين الأولى ذهبت بالقاذورات وأمراضه الظاهرة التي في بدنه، والعين الثانية ذهبت بما كان في باطنه من الأدواء والأمراض.
فجاءت زوجته لتخدمه في مكانه، وإذا بأيوب يلقى زوجته في الطريق، فسألت: يا عبد الله ألم ترَ هذا النبي المبتلى؟ والله إنك لأشبه الناس به وقت صحته! قال: أنا أيوب، وإذا بزوجته تفاجأ فرحاً وبهجة وقرة عين.
إذاً: المؤمن يزداد يقيناً وإيماناً بأن الله يبتلي أهل طاعته، وأن من وقف على باب الله وطرق الباب يوشك أن يجاب، قال عز وجل: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠].