تفسير قوله تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم)
تقول الملائكة عن أمر الله: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٢ - ٢٤].
يأمر ربنا جل جلاله الملائكة ويقول: احشروهم كما تحشر الدواب، واجمعوهم هم وأشكالهم ومن كان على مثل حالهم.
﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الصافات: ٢٢] ظلم الكفر والشرك، ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]، ولذلك كان الشرك أعظم أنواع الظلم، فظلموا الحق في النفس، وظلموا ما كان يجب ألا يظلموا أنفسهم فيه، فأنكروا خالقهم وقدرته وإرادته، وأنكروا كونه جل جلاله لا يحتاج إلى معين ولا وزير ولا مساعد ولا شريك له ولا ند، لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال.
﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [الصافات: ٢٢]، من أزواجهم؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الأزواج: الأمثال والأشباه والنظائر، احشروا الزانية مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والكافر مع الكافر، والفاسق مع الفاسق، وبهذا المعنى فسره جماهير المفسرين، أي: مأخوذ من المزاوجة والمشاكلة، تقول: وزاوج الرجل المرأة فأصبحت نداً وشريكاً له في حياته، وكذلك هؤلاء في ظلمهم وفي كفرهم وفي شركهم.
وانفرد الحسن البصري فقال: أزواجهم نساؤهم وزوجاتهم المشركات اللاتي متن على الشرك، ليزداد عذاب البعض بالبعض.
وعلى كل فلا حاجة لهذا التفسير، سواء كانت زوجة أو غير زوجة، فإن كانت مشركة فهي من أمثاله، وهي من أشكاله، اجتمعت به أو لم تجتمع، فهم سيحشرون في مكان واحد، ويفصلون عن المسلمين.
﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [الصافات: ٢٢] ما كانوا يعبدون: من إبليس، ومن شيطان، ومن حيوان، ومن جمادات، لتكون حجة الله البالغة عليهم، فهؤلاء الذين كنتم تعبدون سيتبرءون منكم ومن عبادتكم، فإن كانوا يعبدون الملائكة أو رسلاً أو صالحين، فإنهم أيضاً يقفون معهم، وكما قال الله لعيسى: ﴿أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦].
فيحشر معهم للبراءة منهم، حتى الصالحون لا يحشرون معهم إلى النار، ولكن يقفون معهم، ليتبرءوا منهم وليدركوا إذ ذاك ولات حين إيمان أنهم عاشوا على ضلال، عاشوا على باطل، ولكن اعترافهم فاته الزمن، وفاته الوقت، وكما يقولون: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، لقد قطعوا بالوفاة وبالموت: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٢٢ - ٢٣]، بعد أن يحشروا ويكبلوا في السلاسل يقول الله لملائكته والأمر له: (فاهدوهم): أي: دلوهم، قال: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٢٣] إلى الطريق البين الواضح الذي يوصل إلى جهنم، وقد تكون جهنم بعيدة عليهم، فتأتي الملائكة تحشرهم وتسحبهم زحفاً على وجوههم إلى أن يدخلوا النار وبئس المصير.
قال: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٣ - ٢٤]، يمرون على الصراط ولا بد من المرور عليه لكل كبير أو صغير، من نبي مرسل، أو رجل صالح، وللكافر والمنافق سواء، وقفوهم: تكون متعدية ولازمة، قفوهم أو أوقفوهم، قال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٤]، سيسألون ويحاسبون، سيفتح حسابهم ويكون شديداً، يكون عسيراً، يكون يوماً عظيماً عليهم، فزيادة على الكفر سيسألون حتى عن الفروض، وسيسألون عن ظلم من ظلموا، وأكل من أكلوا، وفساد من أفسدوا، وما صنعوا في حياتهم، ثم يؤمر بهم فيقذفون في النار.
قال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٤]، تسألهم الملائكة، يسألهم الله جل جلاله، يفصل بينهم، يقضي قضاءه فيهم، يأمر بهم إلى النار، بعد الحساب الشديد العسير.
قال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ﴾ [الصافات: ٢٤ - ٢٥]، عندما يقذف بهم إلى النار، وعندما يشدد حسابهم تقول لهم الملائكة زيادة في العذاب النفسي وزيادة في الحسرة والألم: ﴿مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ﴾ [الصافات: ٢٥] أي: ما كنتم تفعلون في دار الدنيا؟ ما لكم؟ لم لا تتناصرون؟ لم لا ينصر بعضكم بعضاً؟ و (تناصر) فيه مفاعلة، أي: كما كانوا يفعلون في الدنيا، عندما ينصر يهودي نصرانياً، ونصراني يهودياً، عندما يخدع منافق من أقرانه أو يهودي أو لكليهما يمكر بعضهم لبعض ويترك إخوانه المسلمين، ويبتعد عنهم، ولا يناصرون إلا أمثالهم من المنافقين، من اليهود والنصارى: ﴿مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ﴾ [الصافات: ٢٥].
﴿بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ [الصافات: ٢٦]، ويقال لهؤلاء الذين بكتوهم، والذين حقروهم: ما لكم لا تناصرون، فيجيب آخرون: ﴿بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ [الصافات: ٢٦]، يائسون من النصرة، يائسون من أحد يدفع عنهم، هم بين يدي الله، قد استسلموا كما لم يستسلموا في الدنيا قط، استسلموا للذل وللهوان، وللعنة المتلاحقة، وللعذاب الدائم عذاب السعير: ﴿بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ [الصافات: ٢٦].


الصفحة التالية
Icon