تفسير قوله تعالى: (أولئك لهم رزق معلوم)
قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤١ - ٤٧].
يصف الله هؤلاء المخلصين بأنهم عباد الله المكرمون، فيقول عنهم: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ٤١]، أي: أولئك المخلصون في عبادتهم لله: ﴿لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ٤١]، صباحاً ومساءً، فلهم رزقهم متى اشتهوا ذلك، لهم من الأرزاق والخيرات في الجنان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ﴾ [الصافات: ٤١ - ٤٢]، هذا الرزق هو فواكه متنوعة مما يريدون ويلذ لهم، وفيها من كل فاكهة زوجان، كما قال ابن عباس: وليس في الآخرة مما في الدنيا في الجنة إلا الأسماء فقط.
قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الصافات: ٤١ - ٤٣]، يكرمهم الله جل جلاله في الجنات وليست جنة واحدة، بل هي جنان، يحكى عن هارون الرشيد في سفرة من السفرات قالت له إحدى جواريه: إنك لن تدخل الجنة لظلمك وأذيتك، وهي تتدلل عليه، فقال: بلى سأدخل الجنة وليست جنة واحدة، فسأدخل جنتين بل جنات، وأقسم على ذلك بأغلظ الأيمان، وإذا به بعد اليمين يرتعب أن يكون قد أقسم يميناً باطلة غموساً، فأرسل في نفس الليلة إلى أبي يوسف القاضي، صاحب أبي حنيفة وخليفته من بعده، فقال: يا أبا يوسف! حصل معي كذا وكذا فما الحل؟ هل قلت حقاً أم قلت باطلاً؟ قال: إني سائلك يا أمير المؤمنين! أتخاف الله؟ قال: نعم، والله إني لأخافه، قال: فأبشر فقد قال الله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦]، وقال الله تعالى: ﴿وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الصافات: ٤٢ - ٤٣]، فإن كنت تخاف الله فلمن خاف مقام ربه جنتان، وليست جنة واحدة، وإذا كان مؤمناً حقاً فسيكرم بجنات لا بجنة واحدة: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الصافات: ٤٣].
والجنات: البساتين، الجنات بما فيها من أرزاق، وبما فيها من خيرات، وبما فيها من فواكه، ومن النعيم الذي يتنعمون به: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: ٢٤] وبهاء النعيم، جعلنا الله من أهلها وسكانها.
قال تعالى: ﴿عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الصافات: ٤٤]، في الجنة لا يرى أحد قفا أحد، بمعنى: لا خصومة ولا عداوة ولا أحقاد، لن يدبر أحد عن أحد ويوليه ظهره، بل يتقابلون الوجه بالوجه، شأن الإخوان في الله، شأن الأحباب والأشقاء، فقد جمعهم نعيم الله، وجنان الله، ورضا الله، فهم على ذلك إخواناً على سرر متقابلين، وهنا يقول ربنا: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الصافات: ٤٣ - ٤٤]، والسرر: جمع سرير، وهو الأريكة والفرش وأسرة النوم، فهم إذا جلسوا، إذا تناجوا، إذا تحاوروا لم يدبر أحد عن أحد، ولم يحقد أحد على أحد، ولم يبغض أحد أحداً، ولا يضمر له سوءاً، بل تجد في قلبه لكل إخوانه من أهل الجنة مودة وأخوة ومحبة، كما وصفهم الله بقوله: ﴿عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الصافات: ٤٤]، يقابل هذا هذا، ولا يدبر هذا عن هذا، ولا يوليه قفاه.


الصفحة التالية
Icon