تفسير قوله تعالى: (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون)
وهكذا صنع الله بالمخلصين في جميع الأمم السابقة، وهكذا فعل بهم في قصة نوح، وطالما ذكرت في الماضي لتكون عبرة للمعتبر، ودرساً يأخذ منه المؤمن ما يثبت إيمانه، والكافر ما ينذره من أن يكون مثلهم، فيجري عليه ما جرى عليهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ [الصافات: ٧٥].
﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: ٧٦ - ٧٩].
يقول ربنا جل جلاله: إن نوحاً ناداه واتجه إليه، واستغاث به بما صنع به قومه، وقد دعاهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما زادتهم هذه القرون إلى كفراً وإصراراً على الكفر، وبقاءً على الشرك إلى أن نفذ صبره، ومل بينهم وملوه، عند ذلك جأر إلى الله، ورفع يديه داعياً الله جل جلاله يقول: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧].
وهكذا استغاث به فأغاثه، فقال ربنا عنه: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ [الصافات: ٧٥].
استغاث نوح، ودعا ربه ونادى ربه: قد طغى علي هؤلاء فلم تفدهم دعوتي إليك صباحاً ومساءً سراً وعلناً وجهاراً، فما زادهم ذلك إلا كل كفر وجحود، فأنقذني منهم، وعليك بهم أهلكهم ولا تدع منهم كبيراً ولا صغيراً، فإنهم إن ولدوا يلدوا الكفار، وإن أحفدوا يحفدوا الكفار، فقال ربنا في ذلك ليكون مثلاً للمسلمين وللداعين إلى الله، ولمن يدعو ربه لرفع كربه، ورفع بلائه، وما نراه في عصرنا هذا كذلك من نشر الكفر، ونشر البلاء، ونشر المعصية بين المسلمين قبل غيرهم، ومن قادتهم ومن موجهيهم، ومن قبل عامة الناس، وهكذا ربنا ذكر لنا قصة نوح لتكون مثالاً لنا، ولتكون عبرة للكافرين بالله.
قال: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ [الصافات: ٧٥]، يثني الله على جلاله، وعلى قدره وعلى مقامه، يعلمنا كيف نوحده، وكيف ننزهه، وكيف نسبحه جل جلاله، قد استجاب لدعوة نوح ولندائه، وأنعم عليه بما طلبه، ولذلك قال: فلنعم المجيبون، أي: لنوح عليه السلام.
ثم قال ربنا جل جلاله: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات: ٧٦]، استجبنا لندائه، ولضراعته ودعائه، فأنجيناه وأهله، أي: من كانوا على دينه من أهل وغير أهل، وأما أهله الذين لم يؤمنوا كولده، فكان مع المغرقين، أما أهله الذين آمنوا به، ودانوا بدينه، وكانوا قليلاً لم يتجاوزوا في العد ثلاثة عشر مسلماً عند البعض، وسبعين رجلاً في الأكثر عند الآخرين، فيهم الرجال والنساء والأطفال، هؤلاء الذين آمنوا به فقط بعد هذا الدهر الطويل، وهذه القرون الكثيرة المتتابعة المتوالية، هؤلاء أنجاهم الله من هذا الكرب، أنجاهم من بلائهم ومن محنتهم.
قال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات: ٧٦]، الكرب الشديد الذي لا يكاد يصبر عليه، ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الله سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، حضراً وسفراً وهم لا يزيدونه إلا كفراً، وهزءاً وسخرية.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات: ٧٧].
أي: وجعلنا سلالته وأولاده ومن كانوا ذراً في صلبه، ثم انتقلوا بعد ذلك من صلبه إلى رحم زوجه، هم الباقين وإلى عصرنا، والمعنى: أن كل من جاء بعد نوح فهم من ذريته وسلالته أي: نحن وآباؤنا منتسبون إلى نوح، ومن سيأتي بعدنا إلى يوم القيامة، وآدم هو الأب الأول، ثم انقرضت سلالته إلا نوحاً وسلالته، فكان من جاء بعد نوح من ذريته وسلالته، هكذا في الآية، ولكن مضى معنا أنه قبل: أن الله نادى جل جلاله فقال: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٣].
كانت هناك ذرية من نوح، وممن حمل مع نوح، وأن الباقين بعد نوح هم سلالة نوح كما هم سلالة من كان معه من المؤمنين، وحملوا معه على السفينة، ولذلك اختلفوا وليس هذا تضارباً في الآية، بل هي آيتان في كتاب الله أن الناس الذين جاءوا بعد نوح من ذريته وذرية من معه، ولكن الأكثرية كانت من سلالة نوح، فهو قد تزوج بعد ذلك الكثرة من أولئك، فكانت أزواجه بالعشرات، فكانت ذريته أكثر وأشمل وأعم حتى إنهم قالوا: كل من في الأرض يرجعون إلى أولاد نوح الثلاثة: سام ويافث وحام.
فقالوا عن حام: هو أبو الزنوج والأحباش، وقالوا عن يافث هو أبو الروم ومن إليهم، وقالوا: عن سام: هو أبو العرب وأبو بني إسرائيل، وأبو طوائف من البشر، ولكن قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٣]، يدل على أن هناك ذرية لم تكن من سلالته، ولكن من سلالة من حمل معه في السفينة، فيكون معنى الآية: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات: ٧٧] أي: أكثر من في الأرض بعد نوح كانوا من ذرية نوح، ولا ينفي هذا أن تكون هناك أقلية هي من ذرية من حمل مع نوح على السفينة.
قال تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ [الصافات: ٧٨]، أي: تركنا عليه ذكراً وثناءً، وإشادة وتعلقاً وإيماناً، والأمر كما قال ربنا فجميع الأديان السماوية وإلى عصرنا وحتى المجوس، وقد قيل: إنهم أهل كتاب، ولكن الكتاب ضيعوه فذهب مع الذاهبين، جميعاً يثنون على نوح، ويؤمنون بنوح، ويشيدون به، ويرفعون من ذكره.
قال: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: ٧٨ - ٧٩].
ربنا جل جلاله كذلك أشاد به، وسلم عليه وذكر السلام له، فهو آمن عند موته وآمن في آخرته من أن يغضب الله عليه، آمن في جنته، بنعم الله، ورحمة الله، ورضا الله، آمن من أن يذكر بسوء بعد ذلك في الأعصار الآتية والشعوب الأخيرة: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: ٧٨ - ٧٩]، فجميع العوالم المحمدية والأمم الأخرى أمم أهل الكتاب والمجوس وغيرهم تجله، وتحترمه وتشيد به، وتذكره بالسلام والصلاة كبقية الأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
ونوح صلى الله عليه وعلى نبينا لم يسبقه من الأنبياء إلا أبوه آدم، ثم إدريس ثم نوح بعد ذلك، وهو الأب الثاني للبشر.


الصفحة التالية
Icon