تفسير قوله تعالى: (قالوا ابنوا له بنياناً)
وإذا بهم كعادة الكفار حينما يعجزون عن الدليل والبرهان، وهذا فعل السفهاء قديماً، وفعل السفهاء حديثاً، وهؤلاء الآن يسمون أنفسهم: التقدميين والتجديديين، وهم في الحقيقة رجعيون متأخرون، يرجعون لما قاله آباؤهم وأسلافهم من المشركين، يقولون نفس قولهم، نفس دليلهم، نفس برهانهم، عندما يعجزون عن الجواب، وعن الدليل والبرهان، يذهبون إلى البطر وإلى الإخضاع وهيهات هيهات! فالحقائق هي الحقائق، وهؤلاء أصحاب أباطيل وأضاليل ما أنزل الله بها من سلطان.
فكان جوابهم عن هذه الأدلة: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٩٧]، وقد سماه الله جحيماً لهوله قال ربنا: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ﴾ [الصافات: ٩٨]، ذهبوا يهيجون له ناراً لمدة أشهر، وبنوا بهذه النار بنياناً عارماً يصل إلى عشرات الأمتار، ثم أخذوا كل أخشاب غاباتهم، وزادوا عليها أحجارهم إلى أن أخذ يأكل بعضها بعضاً، ثم وضعوه في المنجنيق وألقوه فيها، ولقد كان الطير إذا حلق من فوقها يحترق من شدة لهيبها ونارها، فأخذوه من البعد؛ لأن القرب منها سيحرقهم، وألقوه كما تلقى الحجارة وقذفوه قذفاً.
﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ﴾ [الصافات: ٩٧ - ٩٨]، جعلهم الأسفل والأخسر والأذل، جعلهم ينهزمون، بقيت النار مشتعلة عدة أسابيع إلى أن انطفأت، وإذا بإبراهيم يوجد جالساً وهو يقول لا إله إلا الله.
ويقال في الأثر: لما ألقي في النار جاءه جبريل فقال: يا نبي الله! هل لك من حاجة؟ هل لك من طلب؟ قال: علمه حالي يغنيني عن سؤالي، ماذا يطلب؟ الله يرى هذا، وإذا بالله يقول لها: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩]، ولو قال برداً فقط لكان برداً زمهريراً، ولقتله البرد من شدته، ولكنه قال برداً وسلاماً، بحيث لا تقتله.
فعندما حصل هذا وانتهى سلط الله على نمرود ناموسة دخلت في خياشيمه إلى أن وصلت إلى دماغه فأخذ يضرب رأسه لعل الناموسة تخرج، وإذا بالناموسة لا تخرج، فأخذ يضرب رأسه بالحجارة بالحيطان، وهكذا بقي يضرب رأسه إلى أن تفتت مخه وانفجر، وانتثر على الأرض والناس تراه، بعد أن ادعى الألوهية، وادعى الطغيان، وهذا كما صنع الله جل جلاله مع نبينا وكان إرهاصاً له، عندما أرادت الحبشة أن تضرب الكعبة، فجاءت بفيلها، وجاءت بقوتها، وجاءت بجيوشها، فدخلوا مكة إلى أن احتلوها، وقبل أن يصلوا للكعبة جاء عبد المطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام إلى أبرهة ملك الحبشة يطلب إبله، وقد أخذها جنده وكانت مائة، فلما دخل وطلب الإبل عجب أبرهة منه؛ وذلك لحسن منطقه ودهائه ومع ذلك يطلب إبلاً ولا يدافع عن الكعبة، فقال لـ أبرهة: أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه، وكان إهلاك أبرهة وأصحابه إرهاصاً لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإرهاصة: هي المعجزة قبل الظهور.
وبهذا نزل في الكعبة قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل: ١]، سلط الله عليهم طيراً تحمل حجارة من سجيل تقذفها على رءوس هؤلاء الطغاة فتدخل من رأسه وتخرج من دبره، فأصبحوا كالعصف المأكول، كالحشيش عندما يخرج بعراً بعد أن تأكله الدواب.
وهكذا عندما يعجز المسلمون، ويظن أعداؤهم أنهم قضوا عليهم، عندها قضت إرادة الله الغالبة أن للبيت رباً يحميه، ويحمي عباده المؤمنين المستضعفين بما لا يخطر على بال ظالم، أو على بال عدو، فهؤلاء الأمم والدول الكبرى التي طالما عصت أمر الله، وطغت واحتقرت المسلمين، وأراقت دماءهم، وجعلتهم أقل من كلب، فالكلب إذا قتل قامت الدنيا، وعشرات المسلمين بل آلاف المسلمين يذبحون ويحتلون في كل ركن في الأرض، ولا صوت يرتفع، فهذا تأديب من الله، ولكن النتيجة: إن للبيت رباً يحميه.
يقول تعالى عن هؤلاء وقد حمى نبيه وأكرمه: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ﴾ [الصافات: ٩٧ - ٩٨].
بعد ذلك وجبت الهجرة من الأرض التي يسكنها الكفار والمنافقون، ويمنع المؤمن من إظهار دينه، ومن قبول دعوته إلى الله، كما فعل بعد ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام عندما ضاقت به مكة فانتقل منها إلى المدينة، وفي الهجرة وهو في الجحفة ينزل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص: ٨٥]، فأنت ستذهب للمدينة ولكنك ستعود إلى مكة ظافراً منتصراً سيداً متحكماً في أعدائك، وهكذا كان.