تفسير قوله تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين)
يقول الله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٦ - ١٠٧].
أي: إن هذا لهو البلاء الظاهر، والاختبار البين، فبلاء عظيم أن يؤمر أب بذبح ابنه، ولكن إبراهيم وإسماعيل استسلما لهذا البلاء، فسلم إسماعيل عنقه، وسلم إبراهيم ولده، وذهبا لتنفيذ قضاء الله، ولا يسع المسلم سوى ذلك، فالله جل جلاله يبتلي ويعافي، فقد ابتلى هذين النبيين واختبرهما وبعد أن اختبرهما وجدهما صادقين ومطيعين، فإذا بالسكين لم تؤثر ولم تذبح.
قال ربنا: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٧].
ذبح أي: مذبوح، فداه الله بكبش عظيم، قالوا: هذا الكبش هو الذي كان قدمه أحد ابني آدم قرباناً فتقبل منه ولم يتقبل من أخيه في قصة قابيل وهابيل، وإذا بالله الكريم يحييه في الجنة فيرتع في خيراتها وثمارها وفواكهها، فأمر جبريل أن يأتي به من الجنة، ووضعه عند إبراهيم عند جبل كبير، فجرى إليه وأتى به وكان هذا الكبش أبيض أعين ذا قرنين، وهكذا جرت سنة الضحايا، فقد (ضحى رسول الله عليه الصلاة والسلام بكبشين أقرنين أعينين، يأكلان في سواد، وينظران في سواد، ويمشيان في سواد).
(يأكل في سواد) أي: ثغره أسود الشعر، (وينظر في سواد) أي: كان الشعر المحيط بعينيه أسود، (ويمشي في سواد) أي: كانت أرجل هذين الكبشين سوداء الشعر، وأصبحت هذه الصفة في ضحايا العيد أفضلها وأكرمها.
فقد كان هذا الكبش عظيماً سميناً؛ لأنه عاش في الجنة دهراً، وتقبل قرباناً من أحد ابني آدم.
قال تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ [الصافات: ٧٨] يقول ابن عباس: لقد جاء الإسلام وإني لأرى رأس هذا الكبش معلقاً عند ميزاب الكعبة قد يبس ووحش.
ويقول الشعبي: أدركت أنا هذا.
وبقي إلى أن احترقت الكعبة فاحترق الرأس معها.
وجاء الأصمعي إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو! أي الذبيحين في ابني إبراهيم: أإسماعيل أو إسحاق؟ قال: يا أصيمع! أين ذهب عقلك؟ أين كان إسحاق؟ إسحاق لم يأت الحجاز قط، إسحاق كان في أرض كنعان أرض الشام، كان مع أمه، والذي كان في الحجاز، والذي بنى مع أبيه الكعبة، والذي انفرد بذلك وكان أبا العرب بعد ذلك هو إسماعيل.
فإسماعيل هو الذي أريد ذبحه عند منى، ورؤياه كانت هناك، ولذلك بقي هذا الكبش معلقاً في الكعبة مدة هذه القرون إلى أن رآه ابن عباس في صدر الإسلام، وبقي إلى أيام الشعبي وكان في القرن الثالث ورآه، فأين إسحاق من كل هذا؟ إذاً: فالذبيح بالقطع واليقين كما يعبر كثير من الأعلام كـ ابن كثير والبغوي والسدي وآخرون، هو إسماعيل.
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ [الصافات: ٧٨] أي: ترك الذكر الطيب لإبراهيم في الآخرين، وإبراهيم كذلك ممن تؤمن به جميع الأديان وتذكره جميع الأديان -اليهودية والنصرانية والإسلام- بالرضا والسلام، ويصونونه بالاحترام والتقدير، وأكد هذا القرآن فرفع ذكره وأعلى اسمه، حتى إن المجوس تجد أشرافهم وكبارهم بالنسبة لهم يسمونهم: البراهمة؛ نسبة إلى إبراهيم.


الصفحة التالية
Icon