تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء)
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ٢١].
كثيراً ما يضرب ربنا الأمثال في الخلق والمعاد، بالممات والحياة، وبالأرض حيث نراها ونعيش على ظهرها، فقال ربنا جل جلاله: ألم تر يا محمد -صلى الله عليه وسلم- ﴿أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [الزمر: ٢١] أي: أنزل من الغمام والسحب ماءً ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ﴾ [البقرة: ١٦٤] أي: أغاثها بعد جدب وأنبت خيراتها وخضرتها، وأنبت ما فيها من فواكه ومآكل ومشارب، لمن خلقهم الله من عباده من رجال ونساء ومخلوقات أخرى.
قال تعالى: ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ﴾ [الزمر: ٢١] أي: جعله ينابيع؛ جمع ينبوع، وهي الجداول، جعل لها مسالك تحت الأرض، وتحتفظ به الأرض في باطنها، ثم بعد ذلك تتفجر عيوناً وآباراً وأنهراً جارية.
فيسقى به جذور النبات فيحيا النبات بما يحيا به الإنسان والحيوان.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ [الزمر: ٢١] ثم يخرج بهذا الماء الذي سلكه وأدخله في بطن الأرض آباراً وينابيع وجداول فأنبت به جميع أنواع الزروع منها ما يطول سنوات ودهراً، ومنها ما يعيش فصلاً دون آخر، واختلفت ألوان هذه الأشجار، والنباتات، فالماء واحد والزهر أنواع، فنجد هذا النبت بين أحمر وأخضر وأصفر كل ذلك بقدرة الله جل جلاله.
فقوله: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ﴾ [الزمر: ٢١] أي: بالماء الذي أنزل من السماء.
﴿زَرْعًا﴾ [الزمر: ٢١] أي: ما يزرع في الأرض من كل أنواع المزروعات.
﴿مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾ [الزمر: ٢١]، ألوان: جمع لون.
اختلفت الألوان بين حلو وحامض ومر، وبين أحمر وأصفر وأسود وما بين ذلك، أخرج هذه الألوان وهذه الطعوم المختلفة والألوان المختلفة بماء واحد أنزله من السماء فسلكه ينابيع في الأرض.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾ [الزمر: ٢١] هذا الزرع المختلف ألوانه، تراه بعد زمن قد يبس وأخذ يتحات، وأخذ يتغير لون خضرته ولون حمرته ولون زرقته إلى اصفرار، أي: إلى شيخوخة النبات ونهايته كما قال تعالى بعد ذلك: ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا﴾ [الزمر: ٢١].
يجعله يتناثر فيصير حطاماً كأنه لم يكن هذا الذي حدث، فمن الذي خلقه؟ ومن الذي أحدثه؟ هو الله جل جلاله.
وهكذا الإنسان نراه طفلاً، فنغيب عنه سنوات وإذا به أصبح شاباً، فنغيب عنه زمناً وإذا به أصبح كهلاً، ثم نغيب عنه سنوات وإذا به أصبح شيخاً، ثم نغيب سنوات وإذا به قد ذهب إلى ربه.
فجاء من الفناء وذهب إلى الفناء، وضرب الله المثل بهذا النبات، نمر على الأرض أيام الشتاء وإذا بها أراض بلقع، لا ترى فيها نبتاً يتحرك، فيأتي الربيع وإذا بالأرض تهتز بأنواع من النباتات: أزرق وأخضر وأحمر، وإذا بها تثمر وتصير بين حلو وحامض، وإذا بها بعد زمن تصفر، ثم نراها قد أخذت تيبس وتميل وتنتهي، وإذا بعد مدة تجدها تتساقط وتتناثر وتصبح حطاماً وكأنها لم تكن.
وهكذا يضرب الله هذا المثل للكافر، وقد ضربه في غير ما سورة وآية، والمعنى: فيا من تنكر المعاد والبعث والنشور ألا ترى هذا في الأرض الذي أنت على ظهرها، والذي منها خرجت، والذي إليها تعود؟! ألم ترها يوماً وليس عليها نبت، ثم جئت فوجدتها قد أنبتت ثم أثمرت ثم أخذت تصفر ثم تحطمت؟ وهكذا الإنسان، أين آباؤنا وأجدادنا وقد كانوا مثلنا أحياء يأكلون ويشربون، يضحكون ويبكون، يسرون ويألمون وإذا بهم لم يبقوا، وكذلك نحن.
وهذا البيت الحرام كم مضى عليه؟ كم داسته من أقدام؟ كم صلى إلى كعبته من الخلق؟ يتجاوزون مئات الملايين فأين هم؟ جاءوا من التراب وذهبوا إلى التراب، ولذلك قال الشاعر الحكيم: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد يا من تتعاظم وتتكبر على الله، والذي كأني بك وأنت تمشي على الأرض رأسك في السماء ورجلك في الأرض السابعة، ألا تدري على من تتكبر؟ ألا تدري هذه القدم التي ترفعها وتضعها بعنف وتعال وكبرياء تضعها على رمم آبائك وعلى جثث أجدادك؟ فيجري عليك يوماً من الأيام ما جرى لهم، وكما تفعل يفعل بك.
فإذا أنت تواضعت لخلق الله، وتأدبت بآداب الإنسان فضلاً عن آداب الإسلام، لن يكون الأمر كذلك، ولا شك أن هذا الذي ضربه الله مثلاً للإنسان واقع تراه العين وتسمعه الأذن وتحسه البشرة، ولا ينكره إلا أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر.
ها نحن كذلك من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، ثم كما يقول ربنا: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠].
وما ضرب الله الأرض والنبات والمياه مثلاً للإنسان إلا لأنه يرى الحياة ويرى القيامة ويرى الموت، في هذه الأرض التي يمشي على ظهرها من مشارق الأرض ومغاربها.
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ٢١] إن في الذي قصه الله علينا من نزول الماء من السماء ومن إنبات الأرض، وجعل ذلك أشكالاً وألواناً وأنواعاً، ثم تصير بعد ذلك يابسة متغيرة ثم تتحطم وتتناثر، هذا الذي يحدث ونراه كل عام سواءً كنا في مشرق الأرض أو في مغربها، فيه ذكرى للإنسان؛ ليفكر في ذلك ساعة من زمن، ويوماً من الأيام، كيف حصل هذا؟ من الذي صنعه؟ وبيد من؟ قد يقول الكافر: الطبيعة، وما الطبيعة؟ إن كان الماء فالله خلقه، وإن كانت الشمس فالله خلقها، إن كان الليل والنهار فالله قد خلقهما، فما الطبيعة إذاً؟ فمن قال: الطبيعة كمن جعل لله شريكاً من خلقه، فلا جواب إلا أن تقول: الله الذي خلق هذا الذي نراه كما خلقنا.
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾ [الزمر: ٢١] أي: لتذكيراً وعبرة لكل مفكر وعاقل من ذوي العقول السليمة، والألباب: جمع لب وهي العقول.
فمن كان عاقلاً ومفكراً واعياً يجب عليه أن يتفكر، وكل إنسان كذلك إلا من نزع الله عنه عقله، فإذ ذاك أخذ ما وهب فأسقط ما أوجب، ولكن هذا بالنسبة للخلق من أقل القليل وأندر النادر، فقد حفظ الله علينا عقولنا وديننا.