تفسير قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له)
قال تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: ٥٤].
(أنيبوا) أي: ارجعوا فتوبوا واستغفروا ربكم.
والمعنى: يا أيها الذين أسرفوا على أنفسهم وارتكبوا من الكبائر أفظعها وأعظمها؛ إنكم إذا رجعتم إلى الله مستغفرين تائبين فالله يغفر الذنوب جميعاً، وإذا استسلمتم لله ولوجهه فأطعتم أوامره، واجتنبتم نواهيه، واتخذتم رسول الله موضع الأسوة، وائتمرتم بما أمركم به، واجتنبتم ما نهاكم عنه، يوشك أن يغفر الله لكم ذنوباً ماضية وحاضرة، ويتوب الله على من تاب.
قوله: (أنيبوا): من الإنابة، أي: ارجعوا إلى الله تائبين مستغفرين.
وقوله: (وأسلموا له) أي: استسلموا لقضائه ولرسله ولكتبه، وأسلموا وجوهكم لله مطيعين الأوامر، مجتنبين النواهي.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: ٥٤]، من قبل أن تموتوا ومن قبل ألا تستغفروا فيفجأكم العذاب ولن ينصركم من عذاب الله أحد؛ لأنكم على الشرك وعلى الذنب.
ثبت في صحيحي البخاري ومسلم: أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم جاء إلى راهب وقال له: إني قتلت تسعاً وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ قال: لا، فقتله وأتم به المائة.
ثم ذهب فوجد آخر فقال له: هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبينها؟! إن الله يغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، اذهب إلى قرية كذا ففيها قوم يعبدون الله ويستغفرونه، وكن معهم واستعن بأعمالهم وعبادتهم، فذهب وإذا به يموت في الطريق، فجاءته ملائكة العذاب وملائكة الرحمة يتنازعون فيه، تقول ملائكة العذاب: هذا قد فعل كذا وكذا من عظائم الأمور، وإزهاق الأرواح، نحن نتولاه ونحن الذين نقوم بعذابه.
فقالت ملائكة الرحمة: الرجل قد تاب وأناب وندم على ما كان منه وهو آت إلى القرية ليتعبد الله مع العابدين الصالحين، فظهر بينهم ملك في شكل رجل، فحكم بينهم فقال: انظروا إلى الطريق، فإن كانت أقرب لقرية العابدين فهو من أهل الصلاح والتقى، ولتأخذه ملائكة الرحمة، وإن كان لا يزال قريباً من القرية التي عصى الله فيها فهو من أهل العذاب، فقاسوا الطريق ووجدوه إلى قرية العابدين الصالحين أقرب، فأخذته ملائكة الرحمة وغفر الله له ذنوبه.
وكذلك أبواب الرحمة مفتوحة ولا يتركها إلا مخذول، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (المؤمن واهٍ راقع، وخيركم من مات على رقعه).
واهٍ: يوهي الثوب إلى أن يتمزق، ثم يعود فيرقعه ويلبسه وهو مرقع، وهكذا الذنب إذا أخذ دينه تمزق الدين، فإذا تاب وأناب أخذ يرقعه ويعيد لدينه سلامته، فيكون كالثوب الذي يهي ثم يصلحه ويرقعه، ومن مات على رقع ثوبه من الذنوب والآثام فهو المؤمن الصالح.
ومن الإنابة الاستسلام لأمر الله واجتناب نواهيه، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧].
وقد فهم بعض الفقهاء من هذه الآية: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: ٥٤]، إعادة الصلوات الفوائت، فمن فاتته صلوات يرجع إليها ويعيدها ويستغفر الله على ما مضى من فعله وذنبه.
جاء رجل إلى النبي ﷺ يقول: يا رسول الله! إن أبي يريد الحج وهو شيخ كبير فان، متى يركب الراحلة يقع ولا يستطيع التماسك عليها، أأحج عنه؟ وجاءه رجل فقال: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها حج فلم تحج، أأحج عنها؟ ما كان الجواب لهما؟ (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فأدوا الله، فدين الله أحق بالوفاء)، فجعل الله ذلك الركن من الإسلام ديناً على صاحبه إذا مات ولم يؤده، فلا بد أن يؤديه كما يؤدي المدين ما عليه من ديون.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (أدوا الله فدين الله أحق بالوفاء)، فيه أنه جعل ترك الفرائض كالصلاة والحج ديناً في ذمة من مات وقد ترك ذلك، أو مرض مرضاً عضالاً وعجز عن أداء ذلك، فالصلاة لا بد أن يؤديها على كل حال، فإن فاتته فليعوضها وليؤدها قضاءً، والحج إذا عجز عنه حج عنه غيره من ولد أو قريب أو تلميذ، وهو مفهوم قوله تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر: ٥٤].
فارجعوا إلى الله بالقيام بفرائضه واستغفاره من الذنوب وأسلموا وجوهكم له؛ ليغفر الله لكم ما مضى من ذنوبكم، فهؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم تعهد الله لهم بأن يغفر ذنوبهم جميعاً إن هم استغفروا وأنابوا وأسلموا وجوههم لله.
وأكد هذا نبينا عليه الصلاة والسلام حين قال: (أدوا الله فدين الله أحق بالوفاء)، فجعل النبي ﷺ ذلك ديناً إلهياً، ولا بد من أداء الديون، فدين الله أحق بالوفاء، وأحق بالتقدمة، وهذا منها.
قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: ٥٤]، أي: فبادروا في الحياة قبل الممات، بادروا بالتوبة والاستغفار والندم على ما صنعتم من ذنوب وآثام من قبل أن يأتيكم العذاب، ومن قبل أن تموتوا وأنتم على الشرك والعصيان، ولن تجدوا ناصراً ولا مؤازراً، ولن تجدوا من يخرجكم من عذاب الله وعقابه.
ولذلك فإن الله ينبهنا ويوجهنا ونحن لا نزال أحياء إلى أن نبادر بالطاعات والاستغفار والتوبة من ذنوبنا الماضية، وأن نئوب إلى الله راجعين، من قبل أن يحدث الموت والعقاب ثم لا نجد نصيراً ولا مؤزراً ولا مدافعاً.