تفسير قوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)
قال تعالى: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: ٥٦ - ٥٨].
بعد أن قال ربنا لنا: أنيبوا إلى الله وأسلموا له واستغفروه، ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ [الزمر: ٥٥] أي: اتبعوا القرآن الكريم وأطيعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وأطيعوا الرسول الذي أمركم الله بطاعته إذْ قال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]؛ قال لنا: بادروا بذلك ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٥ - ٥٦].
فقوله: (أن تقول): أي: كي لا تقول، والمعنى: بادروا بالتوبة لكي لا تضطروا أن تقولوا يوم القيامة: (يا حسرتا) ولات حين مندم، ولات حين حسرة، ولات حين عودة.
قال تعالى: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٦]، كي لا تقول نفس مذنبة مسيئة: يا حسرتا.
والتحسر: الندم وشدة الحزن والآلام والتفجع يقال: يا أسفا، ويقال: يا أسفي، ويقال: ((يَا حَسْرَتَا))، ويقال: يا حسرتي.
فقوله: (يا حسرتا) الألف للندبة والاستغاثة، فهو يندب نفسه ويندب حظه، ويستعين ولا معين؛ لأنه أشرك بالله والشرك لا يغفره الله.
قوله: ﴿عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٦]، أي: على ما ظهر مني من تقصير وإخلال في جنب الله، وفي أوامر ربي ونواهيه، وهيهات هيهات ولات حين مندم.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ [الزمر: ٥٦]، أي: ويقول: وكنت مع تفريطي في حق الله وفي جانب الله من الساخرين المستهزئين.
فلقد كان من الساخرين بالمؤمنين والعابدين المتقين، لم يكن فقط مقصراً، ولم يكن فقط مشركاً، ولم يكن فقط مغالطاً، بل كان يسخر ويهزأ بالمؤمنين الصالحين، ويسخر بالدعاة إلى الله؛ ويزداد بذلك حسرة وألماً وندماً، وهيهات هيهات أن تنفع الحسرات، فإنما الحسرة تزيده ألماً وفجيعة وندماً.
قال تعالى: ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزمر: ٥٧]، فيا من لا يزال على الحرام، اغتنم حياتك قبل موتك، وأسرع إلى عبادة ربك، واستغفره من ذنوبك، وتب إليه مما ارتكبت من كبائر، دع الشرك وعد إلى الإيمان والتوحيد، وأنب إلى ربك وأسلم له وجهك قبل أن يأتيك العذاب، أو يأتيك الموت فتتحسر وتبكي وتندم، تارة تقول: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٦]، وتارة تقول: ﴿لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزمر: ٥٧]، وتقول أخرى حين ترى العذاب: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: ٥٨]: وكل ذلك يدل على الندم والحسرة والتوجع ولكن لن ينفع ذلك، فبعد الموت يعذب في النار، فقد أوعده الله به وأوعده أنبياؤه، حين أمروه فلم يأتمر، ونهوه فلم ينته، وهو فوق ذلك في حسرة وتندم، تارة يقول: يا حسرتا على ما صدر مني من تقصير، وأخرى يقول: لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أي: لو أن الله هداه وعلمه وأرسل له رسلاً وأنزل له كتباً فيكون من المتقين، أو يقول حين يرى العذاب: لو أن لي كرة -أي: عودة إلى دار الدنيا- ﴿فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: ٥٨]، أي: لو أن الله يعيده للدنيا فيتوب ويكون من الموحدين المطيعين.
وهذه أمانٍ وتحسرات يقولها المشركون ولكن الله كذب كل هؤلاء فقال: ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا﴾ [الزمر: ٥٩]، فقوله: ﴿بَلَى﴾ [الزمر: ٥٩]، يبين الله أن قولهم السابق كان كلاماً باطلاً، وليس بصحيح.