تفسير قوله تعالى: (وما نتنزل إلا بأمر ربك)
قال تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: ٦٤].
هذه الآية سبب نزولها مجيء كفار قريش يسألون النبي ﷺ عن أهل الكهف من هم؟ وعن الروح ما هي؟ وعن قوم كانوا في أول الزمان فتاهوا فلم يعرف لهم مقام؟ فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (غداً نخبركم)، ولم يستثن ولم يقل: إن شاء الله، فلم يأته جبريل إلا بعد خمسة عشر يوماً، وقيل: أربعين يوماً، حتى ظن الظانون من كفار قريش أن الله قد قلى محمداً.
فعندما جاء جبريل إلى النبي ﷺ قال له النبي: (قد أطلت علي البعد حتى اشتقت إليك، قال: أنا لك أشوق، ولكننا عباد مأمورون، ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٦٤]) أي: لا ننزل إليك من السماء ولا إلى خلق من خلق الله إلا بأمر من الله، فإن أمرنا نزلنا وإن لم يفعل بقينا.
قال تعالى: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [مريم: ٦٤] أي: له ما بين أيدينا من مستقبلنا ومستقبل العالم والكون، قوله: ﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾ [مريم: ٦٤] أي: وما سبقنا من دهور وعصور منذ كانت السماء دخاناً، والعرش على الماء، إلى أن خلق الله السماوات السبع والأرضين السبع، ثم خلق ما خلق، ثم خلق آدم ومن جاء بعده من أولاده من الأنبياء والرسل، إلى أن جاء خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.
فهو سبحانه يملك المستقبل وعلمه، ولا يملكه أحد معه، ويملك الماضي وعلمه، ولا يملكه أحد معه، وله ما يستقبلنا من حياة وأعمال، فنحن لله بجسومنا وبأرواحنا وبتفاصيل أعمالنا، وبكوننا الذي نوجد فيه، ولذلك لا نأتي كمخبرين ولا معلنين ولا موحين إلا بشيء يوحيه إلينا، فإن أمرنا فعلنا.
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: ٦٤] أي: لم ينسك ربك ولم يتركك، كقوله تعالى: ﴿وَالضُّحَى﴾ [الضحى: ١] إلى قوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: ٣] أي: لم يدعك ربك ولم يهملك ولم يقلك ولم يبغضك، ولكن ذاك شيء يقوله خصومك وأعداؤك من الكافرين.
ولكل من الآيتين سبب في النزول، فسورة الضحى نزلت عندما تأخر الوحي سنتين أو ثلاثة سنين بعد نزول الوحي في غار حراء، بحيث إن النبي ﷺ اشتاقت نفسه لتمام الوحي والرسالة، فكان المشركون من أهل مكة يقولون عنه: ولقد قلاك ربك وودعك، فنزل قوله تعالى: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: ١ - ٥]، فدع هؤلاء في هذيانهم وهرائهم وباطلهم، فكل ثانية تمضي من وجود الكون إلا ولك فيها من الإفضال والأجر والثواب والخير والصلاح، بل وأكثر من ذلك.
ثم قال: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: ٥] أي: لا كما زعمت قريش بغضاً وكفراً وتمنياً في العداوة.
وعن أبي الدرداء كما في مسند أحمد وكما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: (ما حرم الله فهو حرام، وما أحله فهو حلال، وما سكت عنه فهو عفو، فخذوا من الله عافيته) أي: ما لم ينص على كونه حراماً فهو حلال، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: ٦٤]، فربك لا ينسى ولا تأخذه سنة ولا نوم، فالله جل جلاله لا ينسى خلقه ولا ينسى تدبيرهم ولا رزقهم ولا عطاءهم ولا عقوبة أهل العقوبة منهم.


الصفحة التالية
Icon