تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم)
قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: ٥].
يقول الله جل جلاله معزياً للنبي عليه الصلاة والسلام ومسلياً ومصبراً: يا محمد! لا تبتئس ولا تحزن لكفر قومك بك، ولا تحزن من شرك هؤلاء من قومك ومن غيرهم من كفار المشرق والمغرب، ممن أرسلت إليهم، وكلفت بتبليغهم، فمنهم من كذبوك، ومنهم من لم يؤمنوا بك، فقد سبق أن كان ذلك منذ أول الرسل نوح عليه السلام.
فآدم كان نبياً، ثم أرسل بعد ذلك إلى أولاده، وأولاده ابتدأوا بولدين، وانتهوا بمجموعة، وأما نوح لما أرسل فقد كان القوم قد تكاثروا، وزعموا أنه مضى من أيام نوح إلى آدم ألف عام، وهذا كافٍ لأن يصبح الناس عشرات الآلاف، فأرسل إليهم نوح عليه السلام فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى عبادة الله الواحد، وكانوا قد أشركوا بالله، وأخذوا يعبدون أوثاناً وأصناماً، يعكفون عليها صباحاً ومساءً، وطوال هذه المدة ما آمن به إلا قليل، ثم أخبره الله وقال: ﴿إنَّه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦]، ولم يؤمن به أكثر من سبعين شخصاً، والكثير من العلماء قالوا: إنه لم يؤمن به إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة فقط، بل حتى بعض أهله كفروا به كولده، فالله يخبر نبيه ﷺ بأنه إن كُذِّب فقد كذبت أمم من قبله، فكذب نوح في قومه، ثم كذبت الأحزاب من بعده، والأحزاب هي الفئات والشعوب والأمم، كقوم عاد وثمود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم موسى وهارون، وأقوام إبراهيم إلى عيسى، فالنبي يعزى ﷺ من قبل ربه الكريم بأنك إن كُذبْت فقد كُذِبَت أمم من قبلك، فعوقب الذين كذبوا على تكذيبهم، ولقوا عذاب الله، واستحقوا العذاب الأليم الخالد في جهنم؛ جزاء شركهم وكفرهم بالله.
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [غافر: ٥] أي: قبل قوم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت كذبت بالتأنيث لاختلاف اللفظ.
والله يقول لنبيه في آية أخرى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦] أي: لعلك مهلكها على أنهم لم يؤمنوا، فلا تفعل ذلك، فإن تلك هي سنة الأقوام والشعوب قبلك، ولكن النهاية أن النصر حليفك كما نصر الأنبياء قبلك، وعقوبة أولئك كما عوقبت الملل والشعوب قبلك، فالله ناصركم، والعاقبة للمتقين.
﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ [غافر: ٥] الهم: شبه العزم، وقد يصل إلى حد العزم، وهموا أي: حاولت كل أمة أن تقتل نبيها، وقد فعل بعض بني إسرائيل ذلك، وقد حاولوا ذلك بنبينا عليه الصلاة والسلام، فقد حاول قومه من قريش وقتله، وقد تآمروا عليه في دار الندوة، ومكانها كان جوار الصفا والمروة، وأخذوا يتآمرون عليه ليقتلوه، واتفقوا على القتل، وأن يقتله شباب من قبائل مختلفة؛ ليهدر دمه ويتوزع في القبائل، وبنو هاشم أقل من أن يعلنوا القبض على جميع القبائل، ولكن الله نصره عليهم، وخرج من بينهم وذهب مهاجراً إلى الله ورسوله إلى المدينة المنورة، وفي المدينة همت اليهود أن ترمي عليه يوماً رحى، وذهب وصعد السطح من حاول أن يرميها على رأسه، ولكن النبي ﷺ انتبه أو نُبه من قبل جبريل، فعاد إلى المدينة وقد كان خارجها، وسممته يهودية اسمها زينب وسألت: أي نوع من اللحم يعجب محمداً؟ فقالوا لها: الذارع، فأخذت ذراع ضأن وسممته، فأكل منه لقمة، وأكل من كان معه لقمتين فمات شخصان من توهم، والنبي لفظ اللقمة وقال: إن هذا اللحم يحدثني بأنه مسموم، وكان هذا عام خيبر قبل موته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنوات، وكان يقول: (لا تزال أكلة خيبر تعاودني حتى قطعت نياط قلبي)، بمعنى أن السم بقي في دم النبي ﷺ وفي عروقه يكبر ويكبر مضعفاً له، وبذلك وصفت عائشة النبي ﷺ في آخر آيامه أنه كان كثير الأحزان، كثير الأمراض.
وسئلت مرة: يا أم المؤمنين! قلنا: خطيبة تعلمت من بيت النبوة وهي أم المؤمنين، قلنا: نسابة، فإنها بنت أبي بكر، وكان أبو بكر نسابة العرب، فعنه تعلمت، وقلنا: عالمة، فلِمَ العجب؟ فقد نشأت وتربت في بيت النبوة، حيث ذكْر الله والحكمة، ولكن الطب من أين لك؟ فقد كانت عائشة على درجة من الطب حتى وصفت بالطبيبة، فقالت: كان رسول الله ﷺ دائم الأمراض، فكان يأتيه الأطباء ويصفون الدواء له، وكنت أشرف على تمريضه وعلى علاجه من هناك تعلمت الأمراض وتعلمت أدويتها، تعلمت الأدواء والأدوية، وكان ذلك إثر هذه الأكلة، فالنبي لم يكن بدعاً من الرسل قبله.
﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ [غافر: ٥] أي: ليقتلوه، وليأخذوا نفسه وروحه، وقد فعل هذا حتى بنبينا عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ﴾ [غافر: ٥] أي: ليذهبوا ويبطلوا به الحق، فكانوا يجادلون في الغث من القول، وبالكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، والذي يتضاحك منه الأطفال.
(وجادلوا بالباطل) أي: أدخلوا الباطل في الجدال، فحصلوا القول الذي لا يعتمد عليه، وجعلوه أداة للجدال وللسؤال.
(ليدحظوا) من الدحض وهو الزوال، أي: يضيعوا به الحق، وهيهات هيهات فعلى الحق نور لن يزول منه قط، كما فعل نبينا لما دخل مكة فاتحاً، وجاء إلى الأصنام إليها فأخذت تتهاوى وتسقط إلى الأرض، وهو يقول: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: ٨١]، فالباطل في طبيعته زهوق ضائع؛ لأنه لا يقبله عقل عاقل، ولا فكر مفكر، ولا اعتبار معتبر، فهو يتهاوى في نفسه، فحتى الأطفال وعجائز النساء الذين لم يدرسوا ولم يتدربوا على الجدال لا يقبلون الباطل بحال قط.
﴿فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: ٥] أي: أهلكهم ودمرهم وأغرق قوم نوح، ثم عاقب هذه الأمم بين صعق وبلاء وزلازل من الأرض، وصواعق من السماء، وقلبت أرض أهل السوء عاليها سافلها، وهكذا ما من أمة من الأمم المشركة إلا وعاقبها وبالغ في عقوبتها، وأما أمة محمد ﷺ -تكرمة من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يفعل بها ما فعله بالأمم من قبلهم، ولكنه عاقبهم بأن جعل بأسهم بينهم شديد، ومثال ذلك: أن يقوم شخص من بينهم ويستسلم لليهود، فيتهود في نفسه ثم يلتفت إلى قومه فيسبهم ويلعنهم ويشكك بهم، فيكون هذا العقاب هو الذي جعله الله عقوبة للمؤمنين عندما يخرجون عن أمر الله، يسلط الله بعضهم على بعض.
وأما ما أصاب الأمم السابقة من غرق تام، ومن صعق تام، ومن جعل الأرض عاليها سافلها، فإن هذا لن يصيب أمة محمد؛ رحمة من الله، وتكرمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله يمهل ولا يهمل، ويفعل هذا لعل المجرمين يتوبون، ولعلهم يتقون.
﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: ٥].
يسأل الله نبيه وكل من تلا هذه الآية سؤال تقرير: كيف رأيت عقابي لهؤلاء؟ والجواب بالتصريح: كان عقاباً بالغاً مدمراً، وكان عقاباً مميتاً، وكان عبرة للمعتبر، وكان درساً للدارسين، وتاريخاً للمؤرخين.
وقد مضت على هذه الشعوب قرون وآلاف من السنين، ولا يزالون يذكرون بذنوبهم وآثامهم وعقوباتهم؛ ليكونوا عبرة للمعتبر، وليأخذ منهم المؤمن ومن أدرك رسالة محمد ﷺ العبرة والدرس، حتى إذا حاول أحد من أمة محمد أن يشرك ويكفر ويخالف ويعصي تذكر -إن كان من أهل الذكر وممن سبقت له العناية- أن من حاول فعل ذلك وأمثاله عوقب بالدمار، وعوقب بالغرق فلا يفعل مثل ذلك، وهذه حكمة هذه القصص.
فعندما يقصها الله علينا في القرآن ليس المراد منها أن يسلينا بالقصص والحكايات، ولم ينزل القرآن لمثل هذا.
ولذلك لم يسمِّ ربنا جل جلاله، ولا نبينا ﷺ بعض الشخصيات أو تحديد تواريخ القصص؛ لأنه ليس المقصود من ذلك القصة، ولكن المقصود الحكمة العبرة من القصة، والدرس من كفر هؤلاء وذكرهم.


الصفحة التالية
Icon