تفسير قوله تعالى: (هو الذي يريكم آياته)
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ [غافر: ١٣].
فالله جل جلاله هو الذي يرينا آياته، وعلامات قدرته ووحدانيته، ومعجزات أنبيائه، وكتبه، فقد أراناها في زمن الحياة النبوية وبعدها؛ وقرأناها في السماء وفي الأرض، وفي كل عصر من العصور، ومن المعجزات التي نعيشها: القرآن الكريم الذي قال الله فيه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]، وقد نزلت هذه والصحابة متوافرون، وبعد أكثر من ١٤٠٠ عام إذا بكتاب الله كما يخبر الله عنه لم يبدل، ولم يؤول، ولم تبدل ولم تنقص منه كلمة، ولم تنقص منه حركة، وكأنه نزل ساعة نهاره غضاً طرياً كما أنزل، فنحن نتلوه ونقرؤه كما كان يتلوه المصطفى ﷺ في محاريب البيت الحرام ومسجده النبوي.
وهذه أكبر المعجزات وأكبر الدلالات التي شاهدناها وعشناها، ولقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه معجزته الخالدة الثابتة السرمدية.
وقد يقول قائل: لم لم يحفظ الزبور وهو كلام الله والتوراة والإنجيل كذلك، فقد بدلت جميعها وغيرت وحرفت عن مواضعها؟
و ﷺ أن من أنزل عليهم من بني إسرائيل استحفظوا على كتاب الله، فطولبوا بحفظه وبصيانته وبالقوام عليه فتعززوا عن ذلك، ولكن القرآن الكريم لم يكل الله حفظه إلى أحد من الخلق، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
والذكر يشمل القرآن والسنة والفقه، ولغة العرب؛ لأن في ذلك كله من القرآن، فالقرآن نزل بلغة العرب، والسنة مبينة شارحة، والفقه خلاصة ذلك، واللغة الأداة للفهم وللدرس والمدارسة، فحفظ الله كل ذلك، وسيبقى قائماً على دين الله، وعلى كتاب الله، وعلى سنة نبيه عليه الصلاة والسلام من يحفظها من التحريف إلى يوم القيامة، كما يخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم وهم على ذلك إلى يوم القيامة)، فمهما كفر الكافرون، ونافق المنافقون، فلابد وأن تبقى حجج الله في الأرض؛ لتخبر بصدق وببيان القرآن، وسلامته من النقصان.
((هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا)) أي: يغذي عقولكم بالعلم والمعرفة، ويغذي أجسادكم بالطعام والشراب.
ونزول الرزق من السماء: هو نزول المطر والغيث، ونزول الرحمة من ربنا، فهو أنزل ذلك غذاء لقلوبنا وأجسامنا، وأرانا آياته في الأرض غذاء لعقولنا، وغذاء لأرواحنا جل جلاله، فهو الكريم الجواد المتعال.
قال تعالى: ((وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)) أي: لا يتذكر هذه المعاني، ولا يدركها ويعيها ولا يعطيها فكره وعقله ووعيه إلا من ينيب إلى الله ويعود ويرجع إليه، ومن تطهر من الشرك ومن درنه وأوساخه ومن المعاصي وقاذوراتها، ومن نظف ظاهره ونظف باطنه لتلقي الحقائق والعلوم والمعارف، ولتلقي وحي الله في كتابه الكريم، ومن بيان نبيه في سنته، عليه أزكى الصلاة والسلام.
((وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)) أي: إلا من أناب وعاد إلى الله، واستغفر من شركه، وأما وهو مادام على شركه فنيته قذرة وسخة لا تقبل النور، وكما تقول الحكمة: التخلية قبل التحلية.
والعروس عندما نريد زفافها لعريسها ندخلها الحمام أولاً، فتطهر بدنها، وتنظف جسدها، وتلبس جديداً من الثياب، وتلبس الحلي والحلل، أما وهي على أوساخ المطبخ وأوساخ الدار وروائح البصل والثوم ونقوم نلبسها الحرير والديباج! فليس هذا عمل العقلاء.
فالمؤمن إذا أراد الفهم والوعي والإدراك وإنارة بصيرته فعليه أن يتخلى عن أوساخ ذنوبه، وقاذورات المعاصي، فيستغفر الله ويتوب إليه، ويندم على ما فات منه، ويقرع قلبه وصدره ووعيه وفهمه لتلقي فهم كتاب الله وفهم رسوله.
وأما إذا أراد أن يتذكر وهو على المعاصي، وهو على فساده وقاذوراته وأوساخه فهيهات هيهات، فلابد أولاً من التخلي عن القاذورات والأوساخ؛ ليتحلى بالطاعات، وليتحلى بالرضا والعلم ومدارسته.


الصفحة التالية
Icon