تفسير قوله تعالى: (رفيع الدرجات ذو العرش)
قال تعالى: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ﴾ [غافر: ١٥].
يصف نفسه جل جلاله وعلا مقامه بأنه رفيع الدرجات، وعرشه أعلى شيء في هذا الكون، فإن بيننا وبين سماء الدنيا خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبعد السماء السابعة سدرة المنتهى، وفوق ذلك العرش ولا أعلى منه، ويخبرنا تعالى عن المسافة إليه: ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤]، تعرج الملائكة أي: أنها تطير ولا تمشي على رجلين، وإنما تطير إليه في يوم مقداره من سنوات الأرض وتوقيتها: خمسون ألف سنة.
(ذو العرش) أي: صاحب العرش، ومن عظمة الله أن العرش عظيم، وما قدر السماوات والأرض إليه إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وهذا يدل على عظم وكبر العرش، وبهذا فسر قوله: (رفيع الدرجات) وبعضهم فسرها: رافع الدرجات، فيكون فعيل بمعنى فاعل، أي: يرفع درجات عباده من الدرجة الأولى في الجنة إلى ما هو أعلى منها، إلى الفردوس الأعلى، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (الجنة درجات، وما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، وأعلى درجات الجنان الفردوس، وهي منازل الأنبياء والمرسلين).
وقال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣] وصاحب أعلى الدرجات هو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، والأنبياء درجات: فأفضلهم الخمسة أولو العزم، ومنهم من هم دونهم، وهكذا الناس منهم الصالح التقي العارف بالله، ومنهم العاصي المقصر، وكذلك الصحابة، والذي يفعل ذلك فيرفع الدرجات هو ربنا.
ومن الناس من ليس له أكثر من لا إله إلا الله، ولذا نكون على خير إن متنا على كلمة التوحيد، ولكن مع ذلك شتان بين من هو مؤمن ومن هو عاص مذنب.
﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ [غافر: ١٥] أي: رافع عباده وخلقه درجات، فهناك الملائكة المخلوقون من نور، وهناك الشياطين المخلوقون من نار، وشتان بين النور والنار، وهناك البشر المخلوق من طين، ومع ذلك حكم الله البشر وهم المخلوقين من الطين فمنه يخرج النبت ومنه رزق الأرض، فكان صالح المؤمنين أفضل من الملائكة، وكان البشر أفضل من الجن، وكان الملائكة أفضل من الخلق إلا من الصالحين العارفين بالله الكبار، وأعلاهم الأنبياء والمرسلون، فهذا المعنى أيضاً تحتمله الآية وكل ذلك حق.
﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ [غافر: ١٥] أي: خالقه ومكونه ومدبره، هذا الذي يحمله من الملائكة ثمانية، والذي يطوف حوله سبعون ألف صف، وخلف كل صف سبعون ألف صف آخر من الملائكة، كلهم يذكرون ويعبدون الله ويوحدون الله ويؤمنون بالله، ويستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض.
﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [غافر: ١٥] معنى الروح: إما الوحي وإما جبريل، والمؤدى واحد، فإنه ينزل جبريل بالوحي إلى من يشاء من عباده، فيجعلهم رسلاً ينقلون رسائل الله ورسالته إلى البشر وإلى الجن.
والوحي كذلك، فالوحي ينزل على من يشاء من عباده من الأنبياء والمرسلين، بداية للخلق، بداية للجن والإنس.
(يلقي الروح من أمره) أي: بأمره، فيكون ذلك عن أمر الله، وعن إرادة الله، وبما يريد الله جل جلاله.
(يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) ومن ألقي إليه الوحي وجاءه جبريل بالرسالة كان نبياً أو رسولاً، إما نبي أمر بالعمل في نفسه، ولم يؤمر بنشر ذلك لغيره، وإما أمر بالعمل بنفسه وأن ينشر لغيره وهو الرسول، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ﴾ [غافر: ١٥] أي: لينذر هذا الذي أنزل إليه الروح، وبعث إليه رسالته فيوعد ويهدد وينذر (يوم التلاق)، وهذا اسم من أسماء يوم القيامة، ومعناه اليوم الذي يلتقي فيه الخالق بخلقه، ويلتقي فيه آدم مع جميع أبنائه وإلى آخر ولد منهم، ويلتقي المؤمنون والكافرون، ويلتقي كل الخلق ملائكة وجن وإنس، منذ أمة آدم وإلى أمة نبينا وإلى آخر واحد منهم.
﴿يَوْمَ التَّلاقِ﴾ [غافر: ١٥] يوم قضاء الله بين العباد، يوم يؤخذ من الظالم للمظلوم، ومن القوي للضعيف، يوم يحاسب الكافر على كفره، والمسلم على إسلامه، هذا إلى جنة وذاك إلى نار.
﴿لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ﴾ [غافر: ١٥] لينذر الناس يوم القيامة، يقول للناس: اتقوا يوم القيامة، اتقوا اليوم الآخر، اتقوا الآخرة فإننا لم نُخلق عبثاً، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، فاتقوا الله في مثل هذا اليوم الذي يعرض فيه الخلق على الله فيحاكم الإنسان على النقير والقطمير، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨].
والله جعل الكفر بالآخرة شعاراً للفكر فقال: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ [الزمر: ٤٥]، فصفة الكافرين أنهم يكفرون بيوم القيامة؛ فإنهم يقولون: لا حياة بعد الموت، ولا مرجع ولا نشر ولا بعث ولا حساب ولا عقاب، وقد وجدت طائفة من ضالي المؤمنين ومن كفرتهم ممن يزعمون الإسلام وهم من اليهود والنصارى في النار كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يقولون: البعث بالأرواح لا بالأجسام، وهم كفرة منكرون لما جاء في كتاب الله واضحاً بيناً، ولما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.


الصفحة التالية
Icon