تفسير قوله تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)
قال الله جل جلاله: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: ١٩].
إن ربنا جل جلاله لا يخفى عنه شيء، ويعلم ما تسر الأنفس وما تعلن، وهو جل جلاله يذكر هنا أنه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ﴾ أي: يعلم الأعين الخائنة، وهي التي تسارق النظر فيما حرم الله، كأن تمر امرأة فيحاول أن ينظر إليها حراماً، فإذا انتبه له غض بصره، وإذا غض الناس عنه رفع بصره يتتبع عورات النساء.
فالعين الخائنة هي التي تنظر إلى ما حرم الله من عورات الرجال والنساء، ومن الإشراف على ما لا يحل له أن ينظر إليه، والنبي عليه الصلاة والسلام طرق بابه أحد يوماً في المدينة المنورة فجعل ينظر من خلل الباب، فكان النبي ﷺ يبحث عن شيء ليفقأ به عينه، ثم خرج إليه وقال: (لو وجدتك تنظر لفقأت عينك) ولذلك يقول الأئمة: إن جزاء من ينظر إلى ما حرم الله أو إلى عورات ما يكون عادة مخفياً في البيت -وما جعلت الأبواب إلا لستر ذلك- أن تفقأ عينه من صاحب البيت أو صاحب الشأن، فيكون قد عاقبه بما أمر به الشرع.
والنبي عليه الصلاة والسلام عند فتح مكة أهدر دم أربعة عشر إنساناً: ثمانية رجال وست نساء وقال: (اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة) فقتل من قتل، وفر من فر، وإذا بـ عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتي بواحد -وهو قريب له نسباً- ممن أهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمه واسمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال: (يا رسول الله! اقبل من ابن أخيك توبته وإيمانه، فسكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام ولم يلتفت إليه زمناً من الوقت، وبعد إلحاح عثمان قبل توبته)، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحترم عثمان ويستحيي منه؛ إذ كان قد خرج عن قومه بني أمية وقد ظاهروا النبي عليه الصلاة والسلام بالعداوة والحرب على وتيرة واحدة، كما هو شأنهم في الجاهلية، وتولى حرب رسول الله والمسلمين كبيرهم أبو سفيان بن حرب، فخرج عثمان عنهم وآمن برسول الله وكان من السابقين الأولين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعندما جاء شفيعاً لـ عبد الله بن أبي سرح سكت عنه النبي زمناً، وبعد ذلك الزمن قبل منه عليه الصلاة والسلام، ومد يده إليه فجدد توبته وإيمانه، ثم التفت للحاضرين فقال لهم: (ألم يكن منكم أحد يقوم إليه فيقتله؟ قالوا: يا رسول الله! ألا أشرت إلينا بعينك لنقتله؟! قال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) أي: ما يجوز وما ينبغي من نبي معصوم أن يقابل الناس بوجه وأن يكتم عنهم وجهاً، ففي هذه الحالة يكون ذلك تغرير لا يليق برسول الله، بل ولا يليق بالمؤمن الفاضل، فإما أن يقتل علناً ويجدد الأمر بقتله، أو يتركه كما قد فعل، أما أن يوهمه بأنه سيتركه ثم يغمز بعينه ليقتل فهي خائنة الأعين.
والعين الخائنة: هي التي أظهرت شيئاً وأبطنت شيئاً آخر، وهو ما يقول الله تعالى عنه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ﴾ [غافر: ١٩].
وعبد الله بن أبي سرح كان قد أسلم قبل وكتب الوحي، ثم ارتد عن الإسلام، فأهدر النبي دمه، ولكن الله أراد شيئاً وأراد النبي غيره، وما يريده الله هو الأصلح والأكمل؛ لأنه خالق العباد، وهو أدرى بمصالحهم، فـ ابن أبي سرح هذا أخذ يكذب عندما ارتد، وقال: كان يأمرني أن أكتب (شديد العقاب)، فأكتب (غفور رحيم)، فيبدل ويغير، فلو قتل لقال أعداء الإسلام: ها هو رجل كان يكتب الوحي، فلما كشف السر قتله النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الله أبقى ابن أبي سرح إلى أن أسلم، فلما حسن إسلامه جعل يكذب نفسه في المجالس ويقول: لا والله، ما غيرت كلمة مما أمرني رسول الله ﷺ في كتابتها، ولكن الشيطان تلاعب به وأغراه، فأخذ يكذب على الله ورسوله، فهو تائب إلى الله ولن يعود، وهو الذي كان قائد الجيش في فتح طرابلس وبرقة التي أصبحت تسمى أخيراً باسم: ليبيا.
قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ أي: يخبر جل جلاله بأنه العالم بكل شيء، حتى بغمزة العين، وما يريد صاحبها أن يقول، كما يعلم ما تسره الضمائر، وما تبطنه النفوس مما لا يتكلم ولا ينطق به؛ ولذلك فالله جل جلاله لا تخفى عليه خافية، فمن حاول أن يكتم شروره وآثامه فإن لم يعلمها البشر فالله جل جلاله يعلمها، وهو لا تخفى عليه خافية، حتى إذا جاء يوم القيامة وجده معروضاً على الله للحساب: كل ما كان يعمله في الحياة الدنيا من جرائم وذنوب وآثام، فإما أن يغفر الله له وقد جاء موحداً مؤمناً، وإما أن يأتي مشركاً فلا توبة ولا رحمة لمشرك إن مات على شركه.


الصفحة التالية
Icon