تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم)
قال الله تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ [غافر: ٢١].
يقول الله لهؤلاء وهم أهل بداوى وحقارة، وهم أضعف سلطاناً وجنداً وعلماً، وهم أقل الأمم إذ ذاك من حيث الحول والحكم، ومن حيث الملك والسلطان، هؤلاء الذين تعاظموا على ربهم، وتكبروا على قول: لا إله إلا الله، فعلام اعتمدوا؟ وأين قوتهم؟ أين سلطانهم؟ أين من ينجيهم من عذاب الله؟ قال تعالى: ((أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) وهذا استفهام تقريري توبيخي تقريعي، يقول الله لهؤلاء: ألم ينتقلوا في الأرض ويضربوا في أركانها: في مشارقها ومغاربها، وينظروا إلى الذين كانوا قبلهم من الشعوب والأمم؟ كيف كان مآلهم عندما كفروا بالله وأشركوا به غيره؟ ولقد كانوا أشد قوة وملكاً وجنداً، وأغنى مالاً، وأوسع جاهاً ورقعة، وكانوا كذلك أكثر آثاراً في الأرض، وتركوا من الآثار وأنواع الحضارات والبنايات والمدائن والقرى والزراعة وما إلى ذلك الشيء العظيم، هؤلاء على كونهم كانوا أشد قوة وأكثر آثاراً في الأرض -جمع أثر، وهو ما تركوه من آثارهم، ومن علامة حضارتهم، ومن شدة قوتهم وسلطانهم- كيف كان مآلهم وقد كفروا بالله؟ لقد أخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر، ولم يجدوا واقياً من الله، ولا مدافعاً عنهم، فالله الخالق للقوي والضعيف، وهو القادر على الكل جل جلاله، ولن يجد المخالف ولا المشرك من يدفع عنه ويقيه من عذاب الله، هيهات هيهات! فيقول الله للمشركين الذين عاصروا نبي الله عليه الصلاة والسلام وأبوا الإيمان والإسلام والإيقان: كيف تكفرون وأنتم تتجولون في الأرض وترون آثار من سبقوكم؟ حيث إنهم على قوتهم في الأرض عندما كفروا بربهم وبأنبيائهم أخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر، وهذا الذي يقوله الله جل جلاله قد تكرر في غير ما آية، وفي غير ما مناسبة، وقاله الله منذ ألف وأربعمائة عام، وأنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وسمعه من عاصروه من المهاجرين والأنصار والبشر مؤمنهم وكافرهم.
ولا يزال هذا واقعاً لنا ونخاطب به نحن، فنحن نرى آثار الأولين في أهرامات مصر، وفي موميات مصر، وفي قصور بابل في العراق، وفي الآثار والحفريات التي نراها هنا في بلدنا، ونراها في أرض الشام، ونراها في أرض المغرب، ونراها في مختلف قارات الأرض، فهذه الأهرامات الصخرة الواحدة فيها تكاد تسع ركناً من هذه الأركان، فقطعت وجرت ثم رفعت واحدة على أخرى بشكل ذكر وأنثى، من الذي اقتطعها من جبال سيناء؟ كيف قطعت؟ بأي آلة؟ ومن الذي نجرها على هذا الشكل؟ ثم كيف جرت؟ ومن حملها؟ وكيف وصلوا بها من سيناء إلى أرض القاهرة؟ وكيف حملت بعد ذلك ووضعت صخرة على صخرة إلى الآن؟ لا يتذكر الناس في ذلك رغم قولهم إنهم وصلوا للحضارة، ووصلوا في الاختراعات والاكتشافات -في زعمهم- ما لم يصل إليه أحد من الشعوب السابقة، وهذا كذب وهراء، وهذا ادعاء لا دليل عليه، وقد مضى على الأهرامات آلاف من السنين وهي هي كأنها نبتت شجرة في مكانها، ما هي الآلة التي قطعتها من الجبال؟ ما هي الآلة التي صنعتها على الشكل الذي يريدون؟ هل حملها الإنسان وهو أعجز من ذلك وأضعف؟ أم الدواب وهي أعجز من ذلك وأضعف؟ إذاً: فهناك آلات كانت تتجاوز الآلات المعروفة اليوم، وقل كذلك على الموميات.
وهذه الجثث لفراعنتهم وقد مضى عليها الآلاف من السنين، ومنها فرعون موسى الذي سنتكلم عنه كذلك، لا تزال جثته قد حفظها الله لمن جاء خلفه؛ ليكون عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكرين، هذا الذي ادعى الألوهية يوماً نجد جثته لا تزال كما هي وكأنها حجر متصل أو جلد متصل، رغم العواصف والأمطار ورغم الطقوس فهي لا تزال هي هي! فلم تتفتت ولم تنحل ولم تنقص، فما هي المواد التي أدخلوها فيها لإبقائها زمناً؟ أكثر ما يصنعون اليوم لا يبقى مائة سنة أو مائتين، ويبقونه في قوالب من زجاج، وصناديق من بلور، ولكن لا تكاد هذه الصناديق تنكسر لسبب ما إلا وتهوي تلك الجثة وكأنها رماد، وكأنها لم تكن يوماً.
وقصور بابل لا تزال آثارها في العراق في بغداد إلى اليوم، وقد حاول هارون الرشيد يوماً وقد اقترح على وزرائه من البرامكة أن يبنوا له قصراً في مكانها، وأن يهدموا تلك الأطلال فقالوا له: يا أمير المؤمنين! لو مضت سنوات على أن نهدم ونزيل هذا البناء لعجزنا، فسخر منهم وأمرهم، فأخذوا يهدمون، فمضت سنة وسنتان وثلاث ولم يزل منه إلا ما يزيد على ذراع أو ذراعين، وكأن ذلك قطعة من فولاذ واحد، فلما رأى ذلك وتأكد تركه وبنى في جهات، فما هي المواد التي دخلت على هذا التراب وعلى هذه الرمال حتى أصبحت قطعة واحدة كأنها الفولاذ الحديدي؟! وحتى الفولاذ والحديد فمياه البحار ورياح البحار تؤثر فيه حتى يتفكك، وهذا لم يتفكك، فنمر على آثار في البحر الميت في أرض الأردن، ونمر على آثار في تبوك، وفي ثمود، والقبائل والأمم الماضية نرى آثارها بما لم يستطع أحد أن يعمل مثل ذلك في يومنا، ونرى قصوراً منحوتة في المغرب في الجبال وفي كهوف الأرض على غاية ما يكون من الزهاء ومن حسن الهندسة مما لا يصنع اليوم مثله، ما هي هذه الحضارة التي صنعت ذلك؟ وكيف كان أولئك؟ والقرآن مليء بهذه المعاني يقول للإنسان: لا تغتر بنفسك وتظن أنه لم يمض نظير في التاريخ السحيق، بل قد مضى الكثير والكثير من الأمم القوية ذات الحضارة ممن كانوا أقوى أبداناً وسلطاناً، وأكثر جنداً، مع ما كانوا يعيشونه من القرون المائة والمائتين والخمسمائة سنة والألف سنة، وقد حدثنا الله جل جلاله أن نوحاً لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكم كان سنه يوم أخذ يدعوهم إلى الله؟ والتوراة والإنجيل مليئة كذلك بأنبياء بني إسرائيل، وأنهم عاشوا مئات من السنين الثلاثمائة والأربعمائة، يقول الله لأولئك وقد ذهبوا إليه ليحكم بينهم بما شاء، ويقال هذا لنا ونحن نسمع وننصت ونتدارس قول الله وكلام الله، وسيعرفه من يأتي بعدنا وإلى يوم القيامة، وكل يوم نجد في كتاب الله جديداً، ونجد معنى من المعاني لم يكن يخطر ببالنا ولا في بال من سبقنا.
يقول تعالى لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالله؛ كفروا به واحداً، وكفروا به قادراً، وكفروا به خالقاً، وكفروا بأنبيائه المرسلة إليهم، يقول لهم: علام اعتمدتم في طغيانكم وكبريائكم؟ قوله تعالى: ((أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: أو لم يتنقلوا ويضربوا في الأرض متنقلين وسائحين وطالبي علم وتجارة؟ قوله تعالى: ((أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا)) أي: نظر العين والبصيرة.
قوله تعالى: ((فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: كيف كان المآل والنهاية للأمم التي سبقتهم؟ لقد كفرت كفرهم، وأشركت شركهم، وكيف أنهم دمروا! وكيف أنهم أصبحوا في الأمس الدابر! يزيد الله فيقول: ((كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ)) أي: كانت تلك الأمم أشد من الأمم المعاصرة على شركهم وكفرهم، فتركوا من الآثار والقصور والأبنية والمدائن والمخترعات، وكل ما نصنعه اليوم من أهم شيء في الوجود كان من مخترعاتهم؛ فالكتابة مثلاً من اخترعها لكل لغات الأرض: هل هو نحن أم آباؤنا وأجدادنا؟ وكان هذا في العصور السحيقة، فهم الذين اخترعوا هذه الأحرف؛ لتبقى من بعد علامة على فهم المعاني التي مضت عليها قرون من كتاب الله، وكلام أنبيائه، وحكم حكمائه، وعلم العلماء.
واختراع الحرف شيء يعتبر من أعظم ما وجد في الأرض من حضارة، وكيف استطعنا أن نكتب كتاب الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمن اخترع الحرف؟ والورق الذي نكتب عليه كذلك وجد قديماً، وكتب به قديماً، فمن الذي اخترعه؟ ومن الذي اكتشفه؟ وهكذا قل: هذه الثياب التي نلبسها: من حرير وقطن وصوف من الذي اخترع آلاتها ومصانعها إلى أن لبسناها ثياباً جميلة تناسب جسد كل إنسان من ثياب خشنة إلى ثياب حريرية، إلى ثياب قطنية؟! كل هذا كان قبلنا في الوجود نحن وآباؤنا، ومن قبل آلاف السنين قد كان هذا موجوداً، وهؤلاء الذين اخترعوا هذه الحضارات: من مدائن وقرى ومن حروف كتابة وأوراق ولباس قد سبقنا في ذلك المتحضرين، فنعيش بين الناس لا كما تعيش البهائم، وإن كان لا يزال الكثير فينا مع هذا يعيش كالبهيمة: لا قراءة ولا دراسة، ولا إيمان ولا صلاح ولا ستر، ولا شيء يعود على نفسه وعلى المسلمين بخير في الأرض.
قال تعالى: ((أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ)).
هؤلاء الذين كانوا أعظم من مشركي الجزيرة وفارس والروم، كانوا أكثر منهم سلطاناً وقوة وحضارة، ومع ذلك حين كفروا بالله، وأشركوا في دين الله أخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر، ودمرهم، وأهلكهم، وأبادهم، وكأنهم لم يكونوا يوماً، وكأنهم لم يشربوا ماء ولم يأكلوا طعاماً، ولم يكن ذلك يكلف الله تعالى إلا قول: (كن)، فكيف بهؤلاء الضعاف الذين هم أقل سلطاناً، وأقل حضارة، وأضعف جنداً، وأضعف جوارح؛ كيف خطر ببالهم أن يتألهوا ويتعاظموا على الله، ويتيهوا على ضعفهم؟ هؤلاء إذاً لم يفقدوا العقل فقط، ولكنهم فقدوا مع العقول دينهم.
قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)) أي: أخذهم الله بذنوبهم ولم يجدوا من يقيهم عذابه، ولا من يقيهم دمار ولا هلاك، ولا من يحفظهم ويدافع عنهم ويصونهم ويحميهم هيهات هيهات! فإنه يجير ولا يجار عليه، ويقدر ولا يقدر عليه، ويفعل ما يشاء وهو القادر على كل شيء جل جلاله وعز مقامه وعلا شأنه جل جلاله.


الصفحة التالية
Icon