تفسير قوله تعالى: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين)
ثم عاد فقال: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ [غافر: ٢٩].
يقول هذا المؤمن: يا قوم! دعوا عنكم موسى وقتله، يا فرعون! كفاك ما أنت فيه من تأله وظلم واعتداء وكفر بالله، فأنتم اليوم لكم الظهور والنصر، ولكم الملك خالدين في أرض مصر ﴿فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ [غافر: ٢٩] إن جاءكم بأس الله وعقوبته كما تهددكم موسى فمن ينصركم من الله؟ ومن ينقذكم من بلائه ولعنته؟ فكروا في أنفسكم واتركوا موسى لا تؤذوه.
هذه كانت دعوة الأنبياء من قبل أنهم يدعون قومهم للإيمان، فإذا لم يؤمنوا طلبوهم أن يكونوا على الحياد ويعتزلوهم، وأن يدعوهم ودعوتهم فلا يمنعوهم من الدعوة إلى الله، ولا يقفوا حائلاً بينهم وبين الناس كي يعلموهم التوحيد، ويدعوهم إلى الله، وهكذا نبينا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: ٢٣] نادى كفار مكة نادى قومه قريشاً فقال لهم: أنا لا أسألكم عن دعوتي مالاً ولا جاهاً ولا سلطاناً، ولكن الذي ينبغي أن تعملوه أن تدعوني؛ صلة لما بيني وبينكم من الأرحام والقرابة، فلا تقفوا دوني ودون الدعوة.
وفي معاهدة الحديبية كان من موادها: أن يترك على دعوته يدعو من شاء إلى عبادة الله وإلى توحيده، ولا تتعرض له قريش بمعارضة ولا صد، ويدعهم النبي عليه الصلاة والسلام ما لم يؤذوا مسلماً أو يتعرضوا، فالنبي ﷺ وفى بالعهد وهم لم يوفوا بالعهد، فقد غدروا وقتلوا حليفاً من أحلافهم، وكان ذلك سبباً لفتح مكة.
قال هذا المؤمن: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ [غافر: ٢٩]، وإذا بفرعون يجيبه، ولو كان هذا الداعي الكاتم للإسلام إسرائيلياً أو يهودياً لما رد عليه فرعون في مجلس حكمه ومناظرته ومشاورته ووقال الذي قال، ولبادر إلى البطش به، ولكنه أنصت إليه، وأعاره أذنه وأخذ يحاوره في الكلام، وكلام هذا المؤمن أكثر حجة، وأدل برهاناً، وأطول نفساً في القول.
قال تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: ٢٩] أجاب فرعون هذا المؤمن فقال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ [غافر: ٢٩] أي: لا أقول لكم إلا ما أرى وأنصح به نفسي: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: ٢٦]، ففرعون عدّ فساده صلاحاً، وكفره إيماناً، وهكذا الدعاة إلى الباطل دائماً يدعون إلى عملهم وإلى قولهم، فيسمونه تارة حقاً، وتارة تقدمية، وتارة تجددية، وهم في ذلك كفرعون، بل هم عيون لفرعون الكافر بالله المدعي ما ليس له.
يقول فرعون: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ [غافر: ٢٩] أي: ما أنصحكم إلا بالرأي الذي رأيت وفكرت فيه وتدبرت، ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: ٢٩]، أي: ما أدلكم إلا على الهداية والطريق السوي والمذهب الحق والدين الصواب، هكذا قال فرعون وهو يكذب على نفسه، ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: ٧٩]، ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف: ٥٤] فلم يأتهم بدليل يقبله عقل سليم، لم يأتهم إلا بالباطل والضلال والإفك الذي لا يقبله أحد.