تفسير قوله تعالى: (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد)
ثم عاد فقال: ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [غافر: ٣٢ - ٣٣].
أنذرهم وخوفهم عذاب الدنيا وخزي عذابها، وأوعدهم بضرب الأمثال فيمن قبلهم من الأحزاب والأقوام الكافرة: قوم نوح وعاد وثمود ولوط، ثم الآن يخوفهم عذاب الآخرة، ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ [غافر: ٣٢].
وما يوم التناد؟ يوم التناد: من المناداة والتنادي، وهو يوم ينادي الناس بعضهم بعضاً، فينادي أصحاب الأعراف أقواماً يعرفونهم بسيماهم، ويستعطفونهم ويرجونهم أن يخففوا عنهم يوماً من العذاب، وينادي أهل الجنة أهل النار: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، قالوا: نعم، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، وقال تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف: ٥٠]، وتنادي الملائكة عند الحساب والميزان: ألا لقد سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وتقول الملائكة لمن كان ميزانه إلى الكفر والسيئات أقرب: ألا قد شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، وعندما يدعو أهل النار الملائكة بأن يدعوا ربهم ليخفف عنهم يوماً من العذاب، فتقول الملائكة: ﴿قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ﴾ [غافر: ٥٠] فيدعو هذا هذا، وينادي هذا هذا، وقد قرئ في السبع ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ [غافر: ٣٢] بالتشديد على الدال، و (التنادّ) يوم أن يند بعضهم من بعض، أي: يفرون ويهربون من عذاب الله، وهذا المعنى سيفهم من الآية بعد.
وقال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا﴾ [الرحمن: ٣٣]، وعلى أرجائها وأقطارها الملائكة، فعندما يرى أحدهم العذاب يحاول أن يفر، وإلى أين يفر؟! فالملائكة محيطة بهم، وهل ينفذون ويخرجون من أقطار السموات والأرض؟! هيهات هيهات لا مفر من الله إلا إليه، ولا منجى منه إلا إليه.
وهكذا معنى يوم التناد: يوم المناداة ينادي بعضهم بعضاً، أو يوم التنادِّ: يوم الفرار، ويبين ذلك الآية التالية: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ [غافر: ٣٣] أي: يوم تعرضون فارين هاربين، وذلك عندما يرون عذاب الله قد أحاط بهم، وعندما يرون زبانية النار وقد أحاطت بهم كالسوار بالمعصم، والملك على أرجائها، فيحاول أن يفر من يفر فيرفعونه ويجرونه إلى النار.
قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ [غافر: ٣٣] أي: لا يعصمكم أحد من الله ولا يجيركم، فكل فرد يقول: نفسي نفسي، وذلك إن استطاع أن ينقذها ويبعدها عن عذاب الله، وهيهات هيهات فلا تكون الشفاعة إلا لمن أذن له ورضي له قولاً، ومن قال صواباً.
ولذلك فهؤلاء مهما فروا وتنادوا واستغاثوا فلن تكون استغاثتهم إلا وبالاً عليهم، وهذا المؤمن الصادق المجاهد بالقول الحق عند هذا الدعي الكذاب على الله قد قدم نفسه للموت على يد هذا الجبار، وأعلن ما كان كاتماً له وهو يدعو فرعون وهامان وقارون وقادة الكفر ومن معهم، فهو أخذ يدعوهم إلى الطاعة ويحذرهم غضب الله ومقته، ويخوفهم إذا زادوا في الكفر فقتلوا نبي الله موسى، قال تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ [غافر: ٣٢ - ٣٣] أي: ليس لكم عاصم ولا حافظ ولا كالئ ولا منجي من الله، ومن جاء كافراً فلا ينتظر الشفاعة؛ لأنه في النار خالداً فيها أبد الآبدين، ومن النداء والدعاء: ألا لقد مات الموت، فيقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [غافر: ٣٣] أي: من أضله الله وفات الوقت للهداية وارتضى الكفر قلباً ولم يكن في قلبه ما ينجيه من عذاب الله، فإنه لا يستطيع مخلوق ملكاً كان أو جناً أو إنساً أن يهديه بعد ضلاله، ومن يضله الله فقد يأتي يوم القيامة وهو مشرك بالله، ولا يغفر الله لمن أتاه مشركاً على حال من الأحوال، فلا شفاعة ولا إنقاذ ولا هداية يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.