تفسير قوله تعالى: (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: ٣٥].
هذه الآية بدل من الآية السابقة: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غافر: ٣٤]، ومن أضله الله فلا هادي له، وكانت الضلالة نتيجة فساد قلوبهم، ونتيجة ما يظهرون في القلوب من كفر وشرك بالله، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غافر: ٣٤]، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ [غافر: ٣٥]، وكثير ما هم، ففي عصرنا يجادلونك في كتاب الله، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الإسلام وأحكامه، فهو يجادل جدال ومذاكرة من لم يعلم شيئاً، فلم يتل من كتاب الله شيئاً، ولم يدرس من حديث نبيه ﷺ حديثاً، بل يقبلون ويرفضون ويواصلون بالباطل والكذب والبهتان.
فقوله: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ﴾ [غافر: ٣٥] من الجدل، والجدل في الدين لا يليق وهو محرم، أما المحاورة والمذاكرة والمدارسة فهي مطلوبة دوماً إلى أن تقوم الساعة، فإن كانت المحاورة والمذاكرة ليست إلا جدالاً ونزاعاً وقولاً بالباطل لا دليل ولا برهان فذاك عمل المسرفين الكافرين الجاهلين الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون الباطل ويكذبون على الله ورسله.
قال تعالى: ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ [غافر: ٣٥] أي: بغير دليل ولا برهان ولا حجة أتتهم عن دراسة أو تعلم في كتاب منزل نطق بها رسول، أو نطق بها حكيم، أو نطق بها عالم، بل هم يقولون ما لا يعلمون كذباً على الله، وصداً عن الصراط المستقيم، وتلك صفة الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
قال تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: ٣٥] أي: كبر الجدال والكلام في هذا الحديث، وذاك نقص كبير وبغض كبير وتحقير كبير عند الله وعند المؤمنين الصادقين، إذ يمقت الله الذي يجادل في الحق بغير برهان ولا دليل، ويمقت المؤمنون من يجادل في كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ بلا حق ولا دليل ولا برهان، فالله يمقت ذلك ويبغضه، والمقت: أشد أنواع التحقير والبغضاء، فقوله: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: ٣٥] أي: كبر جدال هؤلاء في آيات الله بغير دليل ولا برهان.
وهنا يروي ابن مسعود ويقول: ما حسنه المسلمون فهو عند الله حسن، وما قبحه المسلمون فهو عند الله قبيح.
ويعني: الإجماع، فإذا أجمع المؤمنون على فساد شيء فهو فاسد، وإذا أجمعوا على صلاح شيء فهو صالح، وهنا يذكر الله المؤمنين معه فقال: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ﴾ [غافر: ٣٥]، فإذا أجمع المسلمون على صواب فهو صواب، وإذا أجمعوا على باطل فهو باطل.
ولذلك فإن الأدلة التي يعتمدها المسلمون هي: كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم الإجماع، ثم القياس، هذه هي الدلائل الرئيسة الأربعة التي لا يسع مسلماً تركها.
فإذا قال العالم وأفتى بفتوى فينبغي أن يكون له على ذلك دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن الدليل آية ولا حديثاً فإجماع المسلمين، فعلى سبيل المثال: أجمع الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم على أن صلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر أربع ركعات، والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات، فهذا إجماع مؤكد موثوق به، فإذا جاءكم أبله أو جاهل فقال: صلاة الظهر اثنتا عشرة ركعة، وصلاة العصر ثمان ركعات فأعرض عنه، وبعض من يدعون العلم والتأليف يقولون: صلاة الظهر اثنتا عشرة ركعة: ثمان نوافل قبل وبعد، وأربع هي الفريضة، وهذا كلام جاهل، فالنوافل إنما تصلى عند صلاة الظهر وليست من الظهر، كما نقول: ركعتا الصبح، ونافلة العصر ونافلة المغرب والشفع والوتر، ولا نضم النوافل إلى الفرائض، وهناك نوافل نهارية ونوافل ليلية، ونوافل قبل الفرائض ونوافل بعد الفرائض، وما سوى هذا لا يقال بحال.
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: ٣٥] أي: هذا الكافر المعاند المجادل بالباطل، هذا المقر بالشرك ومخالفة الله ومخالفة أنبيائه: قد طبع الله على قلبه فلا يعي ولا يفهم ولا يدرك، فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وقال تعالى: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا﴾ [الأنفال: ٧٠]، وهذا عائد على الإنسان، فإن أضمر الخير وجد الخير، وإن أضمر الشر فسد قلبه وطبع عليه، ولن يهتدي بعد ذلك أبداً، إذاً: كما أضل الله هؤلاء وطبع على قلوبهم فكل من يفعل كفعلهم ويكفر ككفرهم ويضل كضلالهم يطبع الله على قلبه.
(كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر جبار) قرئ (على قلب) مضاف إلى (متكبر)، وقرئ (على كل قلبٍ متكبرٍ) نعت لقلب، والمعنى واحد، فالله طبع على القلوب التي تكبرت عن الإيمان وتكبرت عن رسول الله وعن قبول الحق، وطبع الله على قلب كل جبار، والجبار: هو الذي يجاهر بالكفر والظلم وأخذ الحقوق وسفك الدماء، ولا يخاف الخالق ولا المخلوق، ومن تجبر على الله قصمه الله، وقد طبع على قلبه من قبل.
فالله يضرب بهؤلاء الأمثال، ويقص علينا قصة فرعون ومن معه عندما أخذ يهدد بقتل موسى، فقام هذا الكاتم للإيمان فأخذ يحذره ويحذر أتباعه ويتوعدهم بعذاب الله في الآخرة وبخزيه في الدنيا، ويقول الله مؤكداً لإيمان هذا المؤمن: كذلك من فعل فعل فرعون ممن جاء بعده فإنه يعامل معاملته ويعاقب عقوبته، وهكذا كان، فقد عوقب كفار الجزيرة وكفار الروم وكفار الفرس بالقتل والأسر والتشريد وأخذ الأموال والبلاد والعباد وبالقضاء عليهم وذهاب عزهم ومجدهم ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ [النبأ: ٢٦]، نتيجة كفرهم وكذبهم على الله، فكان كما قال الله قد عوقبوا عقوبة الأولين.


الصفحة التالية
Icon