تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب)
قال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [غافر: ٣٦ - ٣٧].
فرعون أرعن أحمق، فقد استدل على ألوهيته بأن له هذا الجزء من الأرض واسمه مصر، وله مياه ليست أنهاراً عذبة جارية، وإنما هي مياه راكدة ينتظرون فيضانها لتسقي زرعهم وأرضهم، ومع ذلك تأله على الله وادعى الألوهية؛ لأن له هذا الجزء البسيط من الأرض وقال دليلاً لألوهيته: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ [الزخرف: ٥١] أي: أملك أرضاً وخلقاً وأرزاقاً ودواباً، والأنهار تجري من تحتي، وهنا يقول لـ هامان وزيره ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾ [غافر: ٣٦] أي: ابن لي بناء شامخاً مرتفعاً ظاهراً مشهوراً، والصرح من الصراحة، وهي التشهير والوضوح، قال: ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ﴾ [غافر: ٣٦ - ٣٧] أي: ابن يل صرحاً لأصعد وأعلو أبواب السماء فأنظر إلى هذا الإله الذي يعبده موسى، والذي يقول موسى: إنه أرسله.
وهكذا الكفرة الضالون يقولون كلاماً يدعو للسخرية والضحك عليهم، فهل لـ هامان قدرة في أن يبني له صرحاً مسافة خمسمائة سنة ليصل إلى السماء الأولى ولا تأتيه زعازع ولا عواصف فتضعف ذلك الصرح؟! ثم إذا وصل إلى السماء فهل يظن أنه سيجد السماء مفتحة له ويدخلها: أين رب موسى؟ أين إله موسى؟ ثم لا يجد فيبحث ويصعد الثانية والثالثة والرابعة؟ فهل هناك حمق وجنون ورعونة وضياع عقل أكثر من مثل هذا الكلام لإنسان ملك وادعى الألوهية، وأخذ يحاور ويجابه النبيين الكريمين الصديقين موسى وهارون، وهو يظن أنه يقول قولاً يقبل ويجادل فيه! ولذلك الله سلط الله عليه قريباً له قيل: هو ابن أخيه، وقيل: ابن عمه، فأخذ يسخر منه ومن قوله، وأخذ يتوعده بدين الله الحق، وأنه ليس إلا ذبابة أو حشرة من حشرات الأرض، أما أن يستدل على صدق موسى وكذبه فيصعد إلى السماء ليجده فهذا دليل على رعونته وحماقته! فقوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾ [غافر: ٣٦] أي: ابن لي قصراً أو بناء عالياً، ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ﴾ [غافر: ٣٦] أي: الطرق، ﴿أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ﴾ [غافر: ٣٧] قرئ: (فأطلعَ) وقرئ: (فأطلعُ)، أي: ابن لي صرحاً لكي أصعد عليه وأشرفه منه على إله موسى في السماوات.
أراد بطغيانه أن يطلع إلى الله من نوافذ السماء من شرفاتها، يقول: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ [غافر: ٣٧] أي: مع هذا لم يتيقن، فقد شككه موسى وقريبه في ألوهية نفسه، فهو أخذ يقول: أصحيح، أن موسى نبي؟ وأن إلهاً في السماء أرسله؟ فقال: دعني أبني قصراً لأطلع إلى إله موسى، وقال: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ﴾ [غافر: ٣٧] ولم يقل: وإني لأتحقق وإني لأوقن، فقد بلغ منه هذا المؤمن القريب أن يشككه في ألوهية نفسه، وهو الذي كان يقول: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] وكان يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤] وكان يقول: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ [غافر: ٢٦] خوفاً من أن ينشر في الأرض الفساد، وخوفاً من أن يبدل دينهم، فهو يحرص على كل ذلك وهو موقن بكفره وموقن بزيف ألوهيته الباطلة، وأكثر من ذلك أقوامه السخفاء الذين قال الله عنهم: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف: ٥٤]، قبلوا ذلك وآمنوا به ودانوا وصرحوا بأنه إلههم وخالقهم.
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ [غافر: ٣٧] أي: عمله السيئ زين له فرآه زيناً وصلاحاً وعقيدة ورشاداً وصواباً ﴿وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [غافر: ٣٧] أي: دُفع عن سبيل الحق والطريق المستقيم والإيمان بالله ورسله، ﴿وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [غافر: ٣٧] فنفسه الخبيثة وعقيدته الفاسدة وعقله الضائع هو الذي صده عن الحق، والإيمان الحق فصد وأبعد وزاد ضلالاً وكفراناً، وقرئ: (وصَدّ عن السبيل) بفتح الصاد، أي: هو الذي صد غيره.
قال تعالى: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ [غافر: ٣٧] أي: دعوى فرعون الألوهية، ودعواه أنه سيقتل موسى، ودعواه أنه الخالق الرازق: في تباب وخسارة وضياع وباطل؛ إذ لا أصل ولا وجود لها، إن هي إلا أوهام وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.


الصفحة التالية
Icon