تفسير قوله تعالى: (فستذكرون ما أقول لكم)
ثم قال تعالى: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: ٤٤].
قال مؤمن آل فرعون ما قال لفرعون وقومه، وجاهدهم بلسانه، وأعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، فبعد أن قال ما قال وأطال في الكلام قال لهم: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ [غافر: ٤٤] أي: ستذكرون يوم القيامة وأنتم في جهنم أو في النار والعذاب، أو وأنتم في الجنة إن تبتم ستذكرون قولي، فمن انتفع به فسيتذكر قولي ويفرح باتباعه؛ فقد ساقه إلى الرحمة والرضا، وإن أصر على الكفر فسيذكر قولي ويزداد حسرة وندماً على إعراضه عنه، ويقول: إن قبطياً من أقباط فرعون وأقاربه قد نهانا ووعظنا ودلنا، ولكن هيهات أن ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت في دار الدنيا، أو كسبت في إيمانها خيراً، فالإيمان لا ينفع صاحبه إلا إذا كان قبل الغرغرة، وأما إذا آمن والروح في الحلقوم فلا ينفعه دين ولا توبة ولا استغفار، ومن باب أولى يوم القيامة، فلو حاول التوبة والتوحيد هيهات أن ينفعه شيء من ذلك؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، وإنما هي دار رحمة أو عذاب، والرحمة لمن آمن بالله في الحياة الدنيا، والعذاب لمن كفر بالله في الدنيا، فما هي إلا نتيجة عمل الدنيا، إن خيراً فالجنة، وإن شراً فالنار.
وقوله تعالى: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ [غافر: ٤٤] أي: يوم القيامة عند بعثتكم وعرضكم على الله، ((فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ))، وقوله: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ [غافر: ٤٤] أي: قد توكلت عليه واستسلمت له غير خائف من عذابكم وقتلكم واضطهادكم، وحياتي أفوضها لله فإن شاء القتل فهي الشهادة، وإن شاء النجاة فهي حكمة الله ورحمته في الدنيا والآخرة.
وقد قال أرباب الرقائق والآداب: هناك التفويض، وهناك التوكيل، والتفويض أوسع من التوكيل، وما التوكيل إلا شعبة منه، والتوكيل يكون بعد الأسباب، وأما التفويض فيكون قبل الأسباب.
ومعنى التفويض: الاستسلام ظاهراً وباطناً لله الخالق جل جلاله، والاعتماد عليه بأن يصنع ما شاء، ولكن حرم ربك الظلم على نفسه وعلى عباده، فمن فوض أمره إلى الله وهو مؤمن فله من الله الرضا والجنة.
وهكذا فعل مؤمن آل فرعون، وما ذكر الله قصته للمسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا لتكون موعظة للمؤمنين، وذكرى للكافرين، وعبرة وموضع أسوة لكل مؤمن وجد بين كفار ظلمة.
وهكذا مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه، فعندما أعلنه دعا أقواماً إليه؛ فآمن من آمن وضل من ضل، ولكن الله مع ذلك حفظ له ذلك وسجله في كتبه، وسيجازيه عليه خيراً، بدليل ما قص الله علينا من قصته، وما أكرمه الله به من تفويضه أمره إليه، كما قال الله عنه: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: ٤٤] أي: الله بصير بعباده، وأما أنا فلست إلا معلماً داعياً ومبلغاً عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله هو البصير بعباده الناظر إليهم، فيعذب من يشاء ويغفر لمن شاء، يعذب الكافر ويغفر للمؤمن، وهذا إلى الجنة وذاك إلى النار جزاء أعمالهم.
فهكذا يقول مؤمن آل فرعون، وانتهى حواره، وجعل نهاية قوله هذا هو قوله: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: ٤٤].


الصفحة التالية
Icon