تفسير قوله تعالى: (هدى وذكرى لأولي الألباب)
ثم قال الله تعالى: ﴿هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [غافر: ٥٤].
أي: جعل الله الكتاب إرثاً لهم، فورثوه ليكون هدى لهم يهديهم من الظلام إلى النور.
وقوله تعالى: ﴿وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [غافر: ٥٤] أي: تذكيراً لهم بالله وبأحكامه، وبعذابه ورحمته، وهو كله لذوي الألباب، أي: لذوي العقول المؤمنة السليمة.
وماذا كان من بني إسرائيل بعد أن أورثهم الله الكتاب؟ كان منهم أن قتلوا الأنبياء بعد موسى، فقتلوا زكريا ويحيى وشعياً، وسفكوا الدماء، وحرفوا كتاب الله وبدلوه، وشتموا الأنبياء وقذفوهم بالكبائر، وبإتيان المحارم، وتجرءوا على مقام الله فقالوا عنه تزييفاً ما يقوله اليهودي عن ربه ونبيه، فكان الجزاء أن سلط الله عليهم الأمم في الأرض كلها، فشتتوهم وشردوهم وقتلوهم وعذبوهم، واستباحوا أولادهم ونساءهم، واستباحوا كل ما لا يستباح للمؤمن المعصوم الدم.
وإذا رأيتم ما حدث اليوم فهو من باب قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ [مريم: ٨٣]، وما ظالم إلا وسلط عليه أظلم، ثم يقذف بالكل إلى النار، ومع ذلك فليس هناك مستقبل لهم، إنما هو زمن قصير، وسحابة صيف سرعان ما تنقشع، وعلامة الله معنا في القضاء عليهم وإنهائهم: أن يدخلوا المسجد الأقصى بعد أن دخلوه أيام سليمان عندما كانوا مؤمنين بأنبيائهم، وهم قد دخلوا، فانتظروا بعد ذلك تدميراً وبواراً، وإن رأيتم من استعان بهم فهو على دينهم، فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه، وتهود يهوديتهم، وعندما سيأتي البلاء سيعم الكل، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٥١]، فهذا حكم الله الذي حكم به عباده.
فمن جعل ولاءه لصليبي أو لنصراني فهو مثله، ومن جعل ولاءه ليهودي فهو مثله، فكيف بمن جعل ولاءه صباحه ومساءه نهاره وليله بين يهود ونصارى، وأبعد المسلمين والقرآن والدعاة إلى الله، ولكن وهيهات هيهات ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [غافر: ٥١] أولاً ثم ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: ٥١].
فبنو إسرائيل أورثهم الله التوراة التي أنزلها على موسى، ومن غريب أمرهم أنه في الوقت الذي أنقذهم الله بموسى، وأغرق فرعون وقومه، وخرجوا من الغرق والماء بمعجزة، فقد شق البحر فصار كل شق كالجبل العظيم، وتجاوزوه بعد أن ذهب موسى لميعاد ربه، فجاء ووجدهم قد كفروا وارتدوا وعبدوا العجل، وقالوا لبعضهم: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] أي: هذا إله موسى الذي ذهب لميعاد ربه، فتركه هنا وذهب لإله غيره، فعاقبهم الله، وهكذا دواليك كانوا مع أنبيائهم، فما بالك بمن بعدهم، فشتتوا وشردوا وكأن لم يكونوا.
وإذا حدث ما ترونه اليوم فذلك لأن المسلمين فعلوا فعلهم وعصوا عصيانهم، وخالفوا مخالفتهم، وكما قال من قال: ردة ولا أبا بكر لها، فيعيش الناس اليوم في رحلة جديدة كرحلة من يرتد يوم أن توفي المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولكن في الصدر الأول وجدوا أبا بكر فردعهم وأجبرهم على العودة بين قتيل وأسير وجريح، واليوم ما وجدوا أبا بكر الثاني، ولكنه آت لا محالة، ذاك وعد الله في كتابه، وذاك وعد رسوله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.