معاتبة الله لنبيه على عبوسه في وجه الأعمى
ومن الأمثلة على فعل النبي خلاف الأولى: أنه ﷺ بينما هو في مكة المقدسة، وهو يدعو إلى الله تحت الكثير من الشدة والاضطهاد والعداء من أهلها، رأى مرة في عقبة بن أبي معيط تقرباً للإسلام وبشاشة في شكله، فدعاه لبيته فاستجاب، وجاء صناديد كفار قريش، فأخذ يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام على عادته صلى الله عليه وسلم، لا يترك فرصة يجتمع فيها مع كفرة صناديد من أئمة الكفر وأعداء الإسلام إلا وأخذ يدعوهم إلى الله، فهنا أخذ يدعوهم إلى الله على عادته، وإذا بصاحبه المسلم عبد الله بن أم مكتوم الضرير الأعمى يدخل في تلك الساعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمجلس حافل بأمر رسول الله ﷺ ودعوته صناديد قريش إلى الله.
فيصافحه عبد الله بن أم مكتوم ويسأله أسئلة سطحية لا تتعلق بعقيدة ولا بأصول الإسلام، وإنما تتعلق بنحو صلاة أو صيام أو زكاة، وأخذ يقول له: يا رسول الله! يا رسول الله! فأعرض النبي ﷺ عنه ولم يجبه.
وكان فهم رسول الله ﷺ واجتهاده أن هذا قد أسلم، وليس هذا وقت سؤال، فهو يكون معه صبحاً ومساء وفي أي وقت شاء، وأما هؤلاء فلا يراهم إلا بعد جمع وعناء، وكأنه يقول: ليس الآن يا ابن أم مكتوم! الوقت المناسب لأن تسأل هذه الأسئلة، وتقطعني عن الحديث مع هؤلاء، فأعرض عنه وعبس في وجهه، فعاتب الله نبيه وقال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: ١]، ومعنى: عبس، أي: أعرض، ﴿أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ [عبس: ٢ - ٤].
وكان مراد الله شيء آخر، ولكن النبي في عمله ﷺ ما كان يريد إلا مصلحة الإسلام، وذلك بدخول صناديد قريش فيه، ولو أسلموا لأسلم بإسلامهم أهل مكة جميعها، ولن يبقى كافر فيها، فهو لم يرد إلا الخير وعبادة ربه والدعوة إليه، ولكن الله كان يرى غير ذلك، فكان يرى أن هؤلاء إن أسلموا فلأنفسهم، وإن كفروا فإلى جهنم وبئس المصير، فالله غني عنهم وعن إسلامهم، فإن أسلموا فقد اهتدوا لأنفسهم، وإن ضلوا فما الله بحاجة إليهم، ولكنه أراد سبحانه أن هذا المسكين الضرير الفقير عندما جاءك كان ينبغي أن ترفع شأنه، وتعلم أولئك بمقامه؛ لأن أولئك مشركون وهو مؤمن، فتلتفت إليه بكليتك، ولا تعبس في وجهه، فعاتبه الله على ذلك، ولكن هل الله أمر نبيه من قبل وقال له: في أي وقت جاءك ابن أم مكتوم فاترك عملك وتوجه إليه؟ لم يكن هذا، ولا لأحد من الناس.
إذاً: فهذا هو ما يقال له في عرف أهل المعرفة والآداب والرقائق: خلاف الأولى.
وحاصل الأمرين: أنه في الثاني كان الأولى عند الله جل وعلا أن يعتنى نبيه في مثل ذلك الموقف بـ ابن أم مكتوم، وأما أولئك فسبق في علم الله -ولا يعلم هذا إلا الله- أن أكثرهم سيموت كافراً، ومنهم عقبة بن أبي معيط فقد خرج مقاتلاً لرسول الله ﷺ في غزوة بدر، وأسره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك قتله من بين الأسرى هو والنضر الذي هجاه وهجا الإسلام، وأخذ يقول له: عذراً يا محمد! -لا يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم- لم خصصتني بالقتل دون هؤلاء؟ والنبي ﷺ قتله لمواقفه، وكانت على غاية الحقد على الله ورسوله والإسلام، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لمن نترك الصبية؟ قال: للنار.
ولذلك كان منه ولد كبر وزعم الإسلام في أيام عثمان، وولي أميراً، وإذا به في يوم وهو يصلي إماماً في الركعة الثانية التفت قبل السلام وقال للمؤتمين: أأزيدكم؟ أأزيدكم على ركعتين؟ أي: إلى ثلاث وأربع، وإذا به يتبين أنه كان سكران طافحاً، فهذا الذي قال النبي ﷺ عنه وعن أمثاله لما أجاب عن والدهم: للنار.
إذاً: فهكذا كانت نهاية هؤلاء الصناديد، لكن هذا أمر الله، ولا يعترض جل جلاله، ولكنه لم يأمر نبينا ﷺ من قبل بأنه إذا جاءك ابن أم مكتوم افعل كذا! أو كذا! فهذه لا تعتبر مخالفة ولا عصيان، بل هو ذنب مما يقال فيه: خلاف الأولى، أو من لغة: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولو فعل هذا رجل عادي لم يعاتب، وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات).


الصفحة التالية
Icon