مقتضى الأمر بطاعة الرسول
الحاصل: أن هذا الذنب المتقدم وأمثاله مما ذكر مثالاً من كتاب الله هو الذي قال الله عنه: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر: ٥٥]، وأكثر هذا من خلاف الأولى؛ لأن النبي أعلى مقاماً وشأناً، فالإنسان العالم للبشرية كلها، من عاصره ومن سيأتي بعده، ومن هنا كان حكم الله عاماً عند أن قال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١].
وكان حكم الله بعد أن أخبرنا ﷺ أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وأن المسلمين سيفترقون على ثلاث وسبعين فرقة، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا له: يا رسول الله! ومن هذه الواحدة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، وهو تأكيد لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]، وتأكيد لقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]، ولقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧].
وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب عنه كل ما يسمع في صحيفة سماها الصادقة، فتأخر يوماً من أجل رجل من قريش قال له: أتكتب عن رسول الله ﷺ كل شيء وهو بشر يتكلم بالرضا والغضب؟ فلما انتبه له نبي الله ﷺ يوماً ولم يكتب قال له: ما بالك لم تكتب؟ قال: قال لي فلان من قريش كذا وكذا، فقال: (اكتب والله! لا يخرج من هذا إلا حق في الغضب والرضا)، فصلى الله عليه وسلم.
وبإجماع كل مسلم مؤمن منذ عصر الخلفاء الراشدين وعصر النبوءة إلى عصرنا وإلى قيام الساعة بأن السنة النبوية: هي القول أو الفعل أو الإقرار النبوي، ويعتبر شرعاً يجب طاعته والعمل بمقتضاه، وكل عمل فعله رسول الله ﷺ يعتبر شرعاً، وكذا كل شيء وقع في محضر الرسول عليه الصلاة والسلام فأقره يعتبر أيضاً شرعاً وديناً.
ومن هنا كان النبي عليه الصلاة والسلام مشرعاً لدين الله نائماً ومستيقظاً، مسافراً وحاضراً، غاضباً وراضياً، مسالماً ومقاتلاً، وفي كل أحواله؛ لأنه لا يقول ولا ينطق إلا بالحق، ومن هنا نعلم أن قول الله له: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣] أنه كان عظيماً بحق، فأعانه وحفظه وعصمه من كل الذنوب والآثام كبائرها وصغائرها، حتى في الجاهلية وقبل النبوءة.
وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام يوماً: هل حضرت في شيء مما كان يفعله قومك؟ يريدون من سجود لصنم، ونحوه، أو حضر محفلاً من محافل أوثانهم، قال: لا، إلا ما كان من مرتين -وهو دون العشرين- بلغت أن حفلة زواج عند آل فلان! فذهبت لأحضرها، ويكون فيها لفساد العصر رقص وغناء، وذكر الوثنية والصنمية، قال: لا أدري إلا أني قد دخلت ولم يبتدئوا بشيء بعد، فلم أفق إلا وحرارة الشمس على ظهري، أي: أنامه الله، فلم ير شيئاً ولم يحضر شيئاً، وصانه الله وحفظه.
وكرر هذا مرة ثانية فجرى عليه ما جرى، أي: ما كاد يدخل إلا وغلبه النوم، فلم يشعر إلا وحر الشمس على ظهره، ولما أفاق لم يلق أحداً، أي: تفرقوا وتشتتوا وذهب كل لحال سبيله، وما سوى ذلك لم يحضره، وهذا الذي حضره صانه الله منه.
ولقد قالوا كما في الحديث الذي في الصحيحين: إن النبي عليه الصلاة والسلام (نزل عليه الوحي في غار حراء)، وهو في الأبطح كما كان يسمى في عصر النبوءة: الأبطح والبطحاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام نزل عليه جبريل وهو في غار حراء يتعبد ويتحنث الليالي ذوات العدد، وكانت عبادته ﷺ الفكر، أي: كان يفكر ليلاً ونهاراً في الأيام التي اختلى فيها في الغار في خلق السماء والأرض، وفي خلق نفسه، والليل والنهار والصيف والشتاء، ونحوها، وهذه الأصنام لا تدرك ولا تعقل ولا تضر ولا تنفع، إذاً فمن؟ الله هو الذي ألهمه أن يفكر، حتى إذا جاءت النبوءة والرسالة يكون في استعداد عقلي ونفسي، وهذا التفكير نفسه يعتبر عبادة وإلى عصرنا، ولذلك ورد أن تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين عاماً، فعلى الإنسان أن يتفكر، فمثلاً: منذ سنة كذا وكذا! لم أكن في الأرض فمن أوجدني؟ ومن خلقني ورعاني؟ ومن جعلني في رحم أمي؟ ومن كلف والدي بأن يعطفا علي ويشرفا على تربيتي؟ ومن أعطاني هذا العقل الذي أفكر به؟ ومن أعطاني هذه الروح التي بها أتحرك وأتصرف؟ وكثيرون كانوا قبلي كذلك ثم ماتوا وذهبوا فما الموت؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين سنذهب؟ وما الحياة؟ فالإنسان الذي لا يفكر في هذا هو حيوان أقرب منه للإنسان، ونحن نرى في كل لحظة أناساً تذهب وأناساً تجيء، وتسمع في كل حين أن فلاناً ولد له ولد، ولد لك حفيد أو حفيدة، وفلاناً مات رحمه الله، فيتفكر لم جاء هذا وذهب ذاك؟ ويجد مظهر ذلك في قول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، فما هذه العبادة؟ وكيف هي؟ فتأتي إلى القرآن المنزل على النبي عليه الصلاة والسلام فيقول لك: العبادة أن تنهض بالعقيدة لله؛ لأنه الواحد لا شريك له، وهو الخالق الرزاق المحيي المميت القادر على كل شيء.
ثم بعد ذلك ثمتثل أمر الله وأمر رسوله، فأمر أن يصلي الخمس الصلوات في اليوم والليلة، وأن يصوم شهراً من كل سنة وهو رمضان، ويزكي عن ماله إذا بلغ النصاب ومضى عليه الحول، ويحج مرة في العمر، فيأتي إلى هذه الديار المقدسة فيطوف بالكعبة الشريفة، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف يوماً في عرفات، ويقيم ليالي في منى، ومن لم يفعل ذلك فيكون قد أخل بالإسلام وأضاع أركانه، بل ويوشك أن يفقده، فمن لم يفكر في هذا ويعمل به ويسعى فيه يكون إسلامه غير كامل، وقد يصل إلى الكفر والردة نعوذ بالله من الخذلان، ومن السلب بعد العطاء.