تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه)
ثم قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: ٦١].
فالله جل جلاله هو الذي أكرم خلقه وعباده بأن جعل لهم الليل للهدوء والراحة والاستقرار من تعب النهار، من خدمة الزوجة والولد والمجتمع، والعمل بما يكرم به وجهه عن الحاجة إلى الناس، فلا يكاد يأتي المساء إلا وقد وجد جهداً وتعباً وإعياء، فجعل الله الليل كله للخلق كلهم سكناً للراحة، فقال سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ [غافر: ٦١] أي: لنسكن فيه ونستريح، ولتسكن أعضاؤنا وتستريح نفوسنا، وليهدأ عقلنا من كثرة التفكير والدوران، ومعلوم أن الإحساس الذي تحس به النفس فيه مشقة وتعب، وأما عند النوم فلا تحس بشيء.
فينام الإنسان وهو كليل متعب مجهد، فإذا نام من غير تعب ومن غير رؤى مزعجة ومن غير فكر ومن غير سهر وضياع وقت فإنه يصبح الصباح وهو على غاية ما يكون من راحة بدنية واستقرار نفسي، وإن شغله مرض أو أو شاغل أياً كان فإنه يصبح ذلك اليوم مريضاً أو كالمريض.
فالحاصل: أن الله جعل الليل للسكون والراحة، ومن هنا كره ﷺ العمل والسهر بعد العشاء، وكره النوم قبله.
وللنوم مبكراً فوائد منها: أن يصحو الإنسان قبل الأذان بساعة أو أكثر، فيتهجد لله ركعات، وتعد من أخلص الركعات، وأنواع العبادات للإنسان في ذلك الوقت أخبرنا عنها نبينا عليه الصلاة والسلام، فعند أن ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فإنه يقول: (هل من داعي فاستجيب له؟ هل من شاكٍ فاستجيب له؟ هل من جائع فأشبعه؟ هل من عار فأكسوه؟ هل من مظلوم فأنصره؟)، إلى آخر ما ورد، والحديث صحيح متواتر، ولـ ابن تيمية فيه كتاب مفيد في مخارجه ومعانيه، ومفيد في تقصي ما ورد فيه من ألفاظ ومعاني.
وقوله تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [غافر: ٦١] أي: مضيئاً، وأضاء النهار لنرى أعمالنا وأشغالنا ونتفرغ لها، فلا نوم في النهار ولا صحو في الليل، إلا ما كان من القيلولة التي لا تتجاوز دقائق امتثالاً لحديث: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل).
والله هو الذي جعل النهار مبصراً مضيئاً منيراً للعمل، وجعل الليل للراحة، وجعله مظلماً ليستريح الإنسان وينام، وعم بذلك الخلق.
وأما النهار فجعله الله مضيئاً منيراً لعمل الناس، ولخدمة العيال والقيام عليهم، وهو في حد ذاته عبادة، حتى لا تحوجهم الحاجة إلى السؤال، وطلب ما في أيدي الناس من أوساخ، ومما لا يليق بأن يكون ذلك لإنسان قادر على العمل ولم يعمل، وفي قصة سعد بن أبي وقاص لما مرض في مكة وظن أنه سيموت ولم تكن له إلا بنت واحدة، فأراد أن يخرج عن أكثر ماله، فمنعه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (إن كان ولا بد فالثلث والثلث كثير)، ومع ذلك أخبره بأنه لن يموت من هذا المرض، ولم يمت، بل عاش إلى أن أصبح له أولاد وبنات.
فعندما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تترك أولادك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس)، كان يتصور هذه الكلمة وهو لا أولاد له إلا بنتاً واحدة لعلها ستتزوج وينفق عليها زوجها، ولكن هذه كانت بشرى له من رسول الله ﷺ بأنه لن يموت في هذا المرض، ولن يموت حتى يكون له أولاد، فيترك لهم إرثاً خلفاً يستغنون به عما في أيدي الناس.


الصفحة التالية
Icon