تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب)
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [غافر: ٦٧].
يذكر ربنا جل جلاله الأطوار التي يمر بها الإنسان، فالذي طورها وجعلها مراحل لهذا الإنسان الضعيف هو الله الذي خلقكم من تراب، وكان أصل خلق أبينا آدم من تراب، ثم نفخ فيه من روحه، ثم أمر ملائكته ليسجدوا له، فكان هذا الأب الأعلى الذي نحن جميعاً أبيضنا وأسودنا وأحمرنا، عربنا وعجمنا، ذكرنا وأنثانا، كلنا من ذريته ومن سلالته، وعلى ذلك فنحن خلقنا أصلاً من تراب، وكيف يتعالى الإنسان ويتعاظم على الله ولا يعبده وأصله التراب؟ أبالتراب يتيه ويتكبر؟! فلا يفعل ذلك إلا فاسد العقل، ضائع الدين.
ثم خلق من آدم زوجته حواء من ضلعه الأيسر، كما قال ربنا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩]، ثم بعد ذلك جعل الخلق كلهم من ذكر وأثنى، فجاءت الذرية، فـ قابيل وهابيل ومن معهما من ذريته ذكوراً وإناثاً، جاءوا من نطفة آدم في رحم حواء، وهكذا تسلسل الأمر وإلى يوم القيامة، ولن يحدث في ذلك خرق للعادة إلا في خلق عيسى، فقد خلق من مريم ولم يكن من نطفة كبقية البشر، ولكن الله أمر جبريل عليه السلام فنفخ في مريم فكان حملاً وجنيناً، ثم غلاماً بعد ذلك.
قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩]، فكان آدم من تراب بلا أب ولا أم، وكان عيسى من امرأة بلا أب، وكنا بعد ذلك من أب وأم.
فالطور الأول: خلقنا من تراب.
والطور الثاني: خلقنا من نطفة تكونت في صلب الأب، ثم بعد ذلك دخلت في رحم الأم، ثم تكون منها طفلاً صغيراً ضعيفاً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.
والنطفة: القطرة من الماء، ويعنى بها ماء الرجل، أي: منيه.
وبعد أربعين يوماً والنطفة في رحم الأنثى تخلقت وأصبحت علقة، أي: قطعة لحم صغيرة تشبه العلقة، ثم بعد ذلك صارت طفلاً، والطفل جنس ويعنى به الأطفال جميعاً.
فالإنسان يخرج من رحم أمه وهو طفل ضعيف لا يكاد يعي ولا يعقل، ثم انتقل من الطفولة إلى اليفوعة، ثم إلى الشبوبية ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ [غافر: ٦٧].
وبلوغ الأشد هو في أصح أقوال: أن يبلغ الإنسان أربعين سنة، ويكون قد استكمل جسماً وعقلاً وفكراً.
ومن هنا فالنبوءات لا تنزل على الأنبياء والرسل إلا بعد أن يبلغهم الأشد، وهو سن الأربعين، ويكون الشباب في هذا السن قد عقل، وتكون القوة الجسدية قد وصلت منتهاها، ﴿ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾ [غافر: ٦٧] ثم بعد ذلك نصل إلى آخر المطاف وهو كبر السن، ولكنها تختلف باختلاف الأصحاب، فقد تجد رجلاً ابن ستين وهو لا يزال في حيوية الشباب ونشاطهم، وقد تجده ابن أربعين وهو في ضعف الشيوخ وفي هدوء حواسه وأعماله، فهو لا يكاد يقوم بعمل إلا ويعجز.
وهناك أرذل العمر، وهي الشيخوخة المزمنة، الشيخوخة التي تصل لمنتهاها، وقد تضعف معها الحواس، من سمع ومن بصر وذاكرة.
ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام تعوذ بالله من أرذل العمر، وقد سماه الله أرذل العمر، فالإنسان عندما يبلغ هذه السن الفانية، وهذه الشيخوخة العالية يكاد يعجز عن خدمة نفسه، وهنا يصبح بلاءً على نفسه وعلى أهله، ومهما خدموه ومهما بروه فإنهم يملون ويكلون، وقد يتمنون موته: إما شفقة عليه، وإما راحة لأنفسهم ولأبدانهم، وقد يبلغ المائة ويتجاوزها.
وقد اجتمعنا بكثيرين في مشرق الأرض من تجاوز ١٠٠ بـ ١٠ و ٢٠ سنة وهم لا يزالون على ذاكرتهم، وعلى حفظ حواسهم، وعلى خدمتهم لأنفسهم، بل ويهتمون بشئون الناس، والشئون العامة.
وقد التقيت قبل بضع سنوات بشيخ مغربي يسكن أعالي الجبال في جنوب المغرب، وقد تجاوز عمره ١٢٥عاماً، فأخذ يسألني عن السعودية، وعن ملكها وسياستها، وعن فلسطين، واليهود، وعن مصر، وعن البلاد، وكأنه لا يزال شاباً، مما يدل على أنه يتتبع الأحداث مطالعة وسماعاً مع ضعف بصره، ويسأل عن الأشخاص كذلك، وهذا يسعد الله به من شاء من عباده.
ولذلك فالأنبياء وآخرهم نبينا عليه الصلاة والسلام لم يوصلهم الله تعالى إلى هذا السن من العمر؛ حتى لا ينتقص من قوتهم وذاكرتهم، وحتى لا ينظر إليهم نظرة الشباب إلى رجل عجوز إذا تكلم كلاماً لا يوافقه، فيقول: فلان خراط، كما يقول الناس اليوم.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ﴾ [غافر: ٦٧] أي: منكم من لا يصل إلى آخر هذه الأطوار، فقد يموت طفلاً، أو تسقط أمه به، وقد يموت يافعاً، وقد يموت شاباً، وقد يموت كهلاً.
وقوله: ﴿وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى﴾ [غافر: ٦٧] الأجل المسمى هو الموت، فنهاية حياة الإنسان الموت، فنحن جئنا من العدم، وخلقنا من التراب وتطورنا من التراب إلى نطفة ثم علقة ثم طفل ثم شاب ثم كهل وشيخ ثم الموت، فنحن جئنا من الفناء وسنذهب إلى الفناء، ولكن الموت الثاني تعقبه حياة بعد ذلك، وهو يوم البعث الذي لا موت فيه بعد ذلك.
وقوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [غافر: ٦٧] أي: لعلكم تكون لكم عقول تفهمون بها هذه المعاني، وتدركونها، وتفكرون فيها: كيف انقلب التراب إلى تمثال سوي جميل الصورة، ذكي العقل، مدبر الأمور، يبني البنايات، ويحكم الشعوب، ويصنع ويصنع؟! وكيف انتقل من تراب، إلى نطفة، إلى شيخوخة، إلى موت؟ ومن الذي صنع ذلك؟ هل الأوثان والأصنام والملائكة والجن والإنس؟ هيهات هيهات.
فالكل خلق من خلقه والكل يعجز عن أقل شيء من هذا، ولو اجتمع الإنس والجن والملائكة معهم على أن يخلقوا ذبابة كما تحدى الله الخلق لما استطاعوا؛ لأنهم أعجز من ذلك.
ومن الذي طورنا من حال إلى حال، ومن طور إلى طور؟ ستكون النتيجة للعاقل المفكر، لمن يريد الله هدايته وسيقول بجميع الحواس، وبجميع خلايا بدنه: الله، وهذا هو المقصود.
فالله جل جلاله قد أتانا بالأدلة البينة القاطعة والواضحة العقلية قبل النقلية، على وجود الله القادر، وعلى أن الوجود لا يحتاج إلى دليل.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ولكن الدليل على كونه: هل له شريك أو لا شريك له؟ وهل هو وحده صنع كل هذا الذي نراه من سماوات عالية، ومن أرضين واسعة ومن أنواع الخلق؟ أما الوجود فلا ينكره إلا من فقد عقله، وهذا لا يوجد، ما وجد هذا البلاء إلا في عصرنا هذا خلال المائة سنة؛ لأن عباد الأوثان عندما يسألون: من خلق السموات والأرض؟ فإنهم يقولون: الله، ومن خلق الإنسان؟ فيقولون: الله، حتى إذا وصلت في النهاية: من خلقك؟ تقول الله، إذاً: لماذا تجعل له شريكاً، فسيجيبك بالتقليد الفردي بإتباع الآباء والأجداد مما لا دليل عليه ولا برهان: بأنه لا يستطيع أن يخلق كل هذا، فلا بد له إذاً من شريك، وهذا تفسير من لا عقل له، وكما يقول النصارى الذين يعبدون الصليب: إن الله هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم صعد العرش واستراح من تعبه وشقائه، فهم كفار، فالإيمان الصادق والمعقول لم يخالط بشاشة قلوبهم، ومن هنا أيضاً نعلم أن هذه الأطوار هي كما نقول في الأمثال: دوام الحال من المحال، فقد كنا تراباً فحولنا الله إلى إنساناً سوياً ابتداءً من النطفة، ثم صرنا علقة ثم صرنا طفلاً، ثم صرنا شاباً، ثم صرنا شيخاً، وأخيراً كان الموت.
فإذاً: أي حال من الأحوال المعنوية أو المادية فإن دوامها من المحال، فلا فقر يدوم ولا غنى يدوم، ولا قوة تدوم ولا ضعف يدوم، ولا ملك يدوم ولا صعلوك يدوم، ولا امرأة تبقى إلى الأبد ولا رجل، ولذلك نحن دائماً في أطوار، وكل يوم هو في شأن، وشأن الله خلقه وقدرته ونحن مظاهرها، فهو خلقنا جميعاً، وقد كنا يوماً من الأيام أجنة في بطون أمهاتنا، ثم صرنا أطفالاً ثم صرنا شباباً، وصرنا وصرنا، ولينتظر كل واحد منا الموت، وليعمل لذلك: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠].
وقد كنت في المدينة المنورة فوجدت طلابي فيها فقابلوني بدهشة، وبتحيات تجاوزوا الحد فيها، حتى إن أحدهم سجد لله شكراً بعد أن صافحني، ثم قال: بلغنا أنك مت، قلت له: إن لم أمت فسأموت، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]، وقد قيل للشافعي يوماً: إن فلاناً يدعو عليك بالموت ويتمنى لك الموت، فقال لهم الشافعي: تمنى أناس أن أموت وإن أمت فتلك طريق لست فيها بأوحد وهؤلاء الذين تمنوا الموت للإمام الشافعي ماتوا ولعلهم سبقوه.
ومن أطرف ما رأيت أن شاباً يظهر عليه العلم ويدعي فهم العقل قال لي: رأيتك في المنام أنك مت، وقد كتبت لك قصيدة أرثيك فيها، وهذا بناءً على أني مت في منامه، والناس عجائب وغرائب.
وعلى كل حال فقد قال ربنا لنبيه وحبيبه وعبده محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]؛ لأن أعداء النبي تمنوا له الموت، ومن الذي يخلد مهما عاش من أطوار؟ وفي الحديث الصحيح أن موسى جاءه يوماً ملك الموت ليقبض روحه، وجاءه في صورة إنسان، فلم يعرفه موسى، وأراد ملك الموت أن يطرحه في الأرض ليميته، فموسى كان عنيفاً وقوياً فلطمه حتى فقأ عينه، فذهب يشتكيه لربه، قال: يا رب! بعثتني إلى رجل لا يريد الموت، هاهو ذا فقأ عيني، فرد الله له عينه فعادت كما كانت، ثم جاء إلى موسى يقول له: قال لك ربك! ضع يدك على جلد ثور فلك بكل شعرة تحصيها كفك سنة، قال: وماذا بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: إن كان كذلك فمن الآن، فقبض روحه.
ونبي الله إدريس رأى مرة ملك الموت وعرفه، فخاف من أن يقبض روحه، وكان يعرف ملكاً آخر، فطلب منه أن يأخذه إلى السماء ال


الصفحة التالية
Icon