تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [غافر: ٨٢].
هؤلاء الذين ينكرون قدرة الله وإرادته ووحدانيته من قبل ومن بعد وفي عصرنا سلهم: (أفلم يسيروا في الأرض) ألم يتنقلوا بين القارات والمدائن والقرى فيرون آثار الماضين وقدرتهم في الحضارة، وفي البناء، وفي المال، وفي قوة الأجسام؟ كل ذلك نرى أثره في الأرض، وطالما شاهدنا صخوراً ضخمة فنتساءل: كيف قطعت؟ وكيف نقلت من أماكنها وهي بعيدة في أرض ما؟ وكيف وضعت حجراً على حجر؟ وكيف بقيت وعاشت على القرون؟ وتلك الموميات بأي شيء حفظت حتى بقيت كل هذه القرون؟ وأحد هذه الموميات هو فرعون موسى الذي أبقاه الله لمن بعده آية، فقد ادعى الألوهية، وقالوا: لن يموت الإله، فأبقاه الله بجسده؛ لكي يكون لمن خلفه آية، وبقيت موميات الفراعنة المتألهين عظة وعبرة لكل طاغ متجبر متكبر على الله ممن هلك وممن لم يهلك وهو على سيرة فرعون كذلك.
وهذه الحفريات والآثار يجدون فيها ما بين كل مرة وأخرى جثثاً وهياكل عظمية في الطول والعرض، كما وصف الله قوة أجسام عاد وأمم سابقة، أفلا نأخذ العظة والعبرة والدروس من آثارهم التي نراها في حفريات الأرض ونحن نقطع المشارق والمغارب، ونتنقل بين القارات؟ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا﴾ [غافر: ٨٢] نظر العين والبصيرة، ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [غافر: ٨٢] أي: كيف كانت عاقبتهم؟ فقد كانت دماراً وهلاكاً ووبالاً.
﴿كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ﴾ [غافر: ٨٢] أي: كانوا أكثر عدداً، وأكثر شعوباً، وإذا عددنا اليوم: فالهند نجدهم سبعمائة أو ثمانمائة مليون، فهم كانوا ملياراً، فلم تفدهم تلك الكثرة، ولم تمنعهم من عقاب الله وانتقامه ومن صواعق الله من السماء وزلازله من الأرض.
فالذين كانوا من قبلهم كانوا أشد قوة في سلطانهم وفي سلاحهم وفي حضارتهم، وفي قصورهم وفي آثارهم، وقد قالوا: إن أمريكا اكتشفت منذ خمسمائة عام، وقد اكتشفها العرب الأندلسيون، وقد وجدوا فيها آثاراً للعرب بحروف العرب وكلام العرب، ووجدوا آثاراً لحضارة العرب، وهم كانوا يظنون أن أمريكا كانت قارة مجهولة قبل، ولم يكونوا يعرفون تاريخ البشرية منذ عشرة آلاف عام إلا عن طرق الكتب السماوية، والإنجيل قد بدل وغير وكذلك الزبور والتوراة، ولم يبقَ إلا كتاب الله الذي تعهد الله بحفظه، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك فالآثار التي تكتشف والحفريات التي تعرف وترى تؤكد كل ما قاله القرآن حرفاً حرفا وآية آية، وسورةً سورة.
وقبل سنتين أو ثلاث كتب فرنسي نصراني كتاباً قارن فيه بين الكتب السماوية: القرآن والتوراة والإنجيل، وقال: كل ما نص عليه القرآن من علوم فلكية وجغرافية وتاريخية وبشرية وإنسانية أكده العلم الواقع، فلم يوجد فيه شيء مخالف للحقائق، وأما تلك الكتب فقد خالفت الحقائق وأتت بالأوهام وبالأكاذيب وبالخرافات، ولقد أتى ذلك ممن زادوا فيها وحرفوها وبدلوها وإلا فهي أيضاً كتب سماوية، ولكن بدلت وغيرت، فقد الله استحفظ عليها رهبانهم وعلماءهم فعجزوا عن ذلك وضلوا وأضلوا.
فهذا الذي قاله الله تعالى ولفت أنظارنا إلى أن نراه بأعيننا، ونبحث في مختلف بقاع الأرض وقاراتها؛ لنزداد إيماناً برؤيته وبقراءته وسماعه، هو حق لا شك فيه ولا مرية، وقد قال عن النصارى عندما جعلوا الله ثلاثة: ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: ٣٠] أي: في كذبهم أن الله ثالث ثلاثة، والنصارى لم يخترعوا ذلك، فهم كفروا وأصبحوا وثنيين تقليداً، فهم قلدوا من سبقهم، فقال الله: ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ [التوبة: ٣٠] أي: يشبهون من سبقهم.
وقد كنت مرة في متحف من متاحف النصارى في لبنان فقال لي ذاك المشرف على تلك الآثار والمتاحف: أرأيت هذا الصليب، قلت: رأيت، فقال: مضى عليه آلاف السنين، قلت: كيف؟ أليست النصرانية لم يمضِ عليها أكثر من ألف وتسعمائة سنة وعشرات السنين، قال: لا، قد كان الصليب قبل ذلك بآلاف السنين، قلت: صدق الله: ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: ٣٠]، فهم في كفرهم مقلدون، وفي وثنيتهم ببغاويون، فدهش من هذا الكلام وكأنه ما سمعه قط، فقال: أصحيح هذا في القرآن؟! قلت: نعم، أنا أقصه عليك وأتلو عليك ما قاله الله في كتابه، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ﴾ [غافر: ٨٢] أكثر قوة وآثاراً وحضارة وبناء وعمارة ودراسة وكتاباً، ومع ذلك كانت النتيجة ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [غافر: ٨٢]، فلم يفلتوا مع ذلك من عقاب الله، فدمروا وأهلكوا، وجاءتهم صواعق من السماء، وزلازل من الأرض وصيحات أسكتتهم في ساعتها، كما قص الله علينا عن قوم نوح وعاد وثمود ولوط، الذين عاقبهم الله بما عاقبهم، فأرسل عليهم الصواعق من السماء ورجفت الأرض بمدائنهم، وأزيلت من مكان البحر الميت ورفعت إلى أن صار يسمع نباح كلابها ونهيق حميرها ملائكة السماء، ثم قلبها الملائكة بأمر الله رأساً على عقب، فذهبوا كأمس الدابر وكأن لم يكونوا، ثم جاء الملاحدة من روسيا وحفروا حفريات هناك وقالوا: القنبلة الذرية كانت معروفة قديماً، نعم الله خالق الذرة والقنبلة وخالق من صنعها، وهم ينكرون هذا فرأوا آثارهم ونسبوها لمن سبقهم، والأرض الميتة هناك تسمى الآن بالبحر الميت، فهو لا ينبت فيه شجر ولا يعيش فيه سمك، وماؤه لو شرب لا يروي، ولا يطبخ به الطعام، وهذا الماء كان أثراً من آثار قوم لوط عندما عاقبهم الله بفعلتهم الشنعاء التي فعلوها ولم يسبقهم إليها أحد من الخلق قبلهم.
قال تعالى: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [غافر: ٨٢] فحضارتهم وقوتهم وشدتهم وكثرتهم لم تغنِ عنهم من عقاب الله شيئاً.
وهكذا يا قريش ويا عرب ويا عجم ويا روم ويا فرس، ويا من كلفوا وأمروا بدين الإسلام وبطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام! إن كفرتم وكذبتم وأشركتم فستكون عاقبتكم لعاقبة أولئك، وأين أنتم من أولئك قوة وبطشاً وحضارة!