تفسير قوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها)
قال ربنا جل جلاله: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: ٩ - ١٠].
الله جل جلاله خلق السماوات والأرض في ستة أيام؛ فقد خلق الأرض يوم الأحد، وشق الجبال والبحار يوم الإثنين، وجعل فيها أقواتها وأرزاقها وما تحتاجه إليه يوم الثلاثاء، وخلق فيها دوابها وطيورها وأنعامها في يوم الأربعاء، وخلق السماوات يوم الخميس، وأوحى يوم الجمعة في كل سماء أمرها من الملائكة ومن البحار ومن الأقمار ومن الشموس ومن خلق الله الذي في كل سماء مما لا يعلمه إلا هو جل جلاله وعزّ مقامه، وذاك معنى قوله في غير آية من الآيات: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨]، وقوله: ﴿وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ [الأحقاف: ٣٣].
وقد جاء اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام سائلين: متى خلقت السماوات والأرض؟ ومن خلق أولاً هل السماء أم الأرض؟ فقال لهم ما قاله ربنا ثم سكت.
فقالوا له: أتمم يا أبا القاسم! خلقها في ستة أيام ثم استراح، فغضب ﷺ منهم، فأنزل الله قوله: ﴿وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ [الأحقاف: ٣٣] وقوله: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨]، أي: لم يحصل له إعياء ولا تعب، وكل ذلك لم يكلف أكثر من أن يقول: كن فيكون، فلم يكن في ذلك لغوب ولا تعب ولا إعياء ولا مشقة.
وفي صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه ابتدأ الخلق يوم السبت، فخلق التربة)، ولكن هذا الحديث من أحاديث مسلم المطعون فيها؛ إذ الأحاديث كلها مجمعة على أن بدأ الخلق كان يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وقد قال البخاري: روي هذا الحديث عن أبي هريرة عن كعب الأحبار، فعده البخاري من الإسرائيليات.
واليوم من هذه الأيام كما قال الإمام مجاهد: هو ألف سنة، وهو من أيام الآخرة التي يقول الله فيها: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: ٤٧].
فقال مجاهد: خلق الله السماوات والأرض في ستة آلاف عام، وبيان ذلك مفصلاً في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ٩]: فالله خلق الأرض في يومين، فقد خلقها يومي الأحد والإثنين، خلق فيهما الأرض والجبال والبحار والمياه، ثم قال بعد ذلك مفصلاً: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: ١٠]، أي: خلق الأرض في يومين، ثم خلق في اليومين الآخرين -الثلاثاء والأربعاء- الجبال على الأرض وجعلها لا تميد، فعندما خُلقت خُلقت بلا جبال، فأخذت تميد وتتأرجح، فأمر جبريل أن يُقيمها حتى لا تميل، فذهب جبريل لذلك، فقال: يا رب! لقد أعجزتني عن أن أقيم أودها، فخلق عليها فوقها الجبال فأرستها وثبتتها من الميلان ومن الميدان، فلم تتحرك بعد ذلك.
قال تعالى: ((وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا))، أي: جبالاً راسيات تُرسيها وتثبتها.
قوله: ((وَبَارَكَ فِيهَا))، أي: بارك فيها بالمياه وبالأرزاق وبالنباتات وبالفواكه وبالطير وبما عليها مما خلقه للإنسان، فقد خلق شيئاً في قطر وآخر في قطر آخر؛ ليذهب الناس بعضهم إلى بعض ويتجّر بعضهم من بعض ويضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ويأتون بما ليس عندهم؛ وهكذا يتبادل الخلق المنافع.
قال تعالى: ((وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)) فقد كان خلق الأرض والجبال والأقوات وكل ما ينفع الإنسان على هذه الأرض في أربعة أيام، فهذه مع قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ١٢] ستة أيام كما قال ربنا جل جلاله.
وإذا علمنا بأن اليوم في الآخرة كألف سنة مما تعدون كان خلق ذلك من أعداد الأرض وأيامها ستة آلاف عام، وهذا يزيل إشكال الكافر والمتشكك والذي لا يؤمن إلا بالمحسوسات وخاصة ممن يسمون أنفسهم علماء الأرض والجيولوجيا وطبقات الأرض، فهم يقولون: إننا عند حفر الأرض والبحث في أغمارها وأعماقها وجدنا أن هذه الأرض تكونت طبقاتها في آلاف السنين.
نقول: وهكذا قال الله، فهي قد خُلقت في ستة أيام من أيام الآخرة، أي: في ستة آلاف عام من أعوام الأرض وأعدادها وقد اتفق الناس على ذلك، كما خلق الله السنة اثني عشر شهراً، وخلق الشهر تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين، وخلق اليوم أربعة وعشرين ساعة، فهذه الأعداد في الأرض في مجملها وفي عمومها، وإن كان في بعض الأرض شذوذ كالأرض المتجمدة في أراضي الصين وتايلاند، ففيها ستة أشهر ليل متصل وستة أشهر نهار متصل، وفيها دول متحضّرة لها جيوش وإدارات يعيشون بالتوقيت، فهم يوقتون العمل ثمان ساعات والنوم ثمان ساعات الأكل والشراب وما إليهما ثمان ساعات، فهي أربع وعشرون ساعة في اليوم، حسب ما يوجد في مجموع الأرض.
ثم قال تعالى: ﴿سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: ١٠]، أي: خلق الأرض في أربعة أيام سواء أي: أيام تامة بلياليها ونهارها.
للسائلين أي: هذا جواب من يسأل إن سأل، وإن لم يسأل فقد أُجيب، والكثيرون قد سألوا قبل وبعد، ولا يزالون يتساءلون كيف خلق كوكبنا الذي نقيم عليه؟ وكيف خُلقت السماء التي تظلنا؟ وكيف خُلق ما على الأرض وما في باطنها؟ وكيف خُلقت السماوات وما بينها؟ ومتى خُلق ذلك؟ وما الحكمة في خلق ذلك؟ ومن خلق ذلك؟ والمؤمن الذي وفّقه الله للهداية والمعرفة في كل ذلك يقول: الله الخالق المدبّر، ومنه الأمر والتدبير جل جلاله، وله الأمر والخلق جل جلاله، ثم بعد ذلك استوى إلى السماء.