تفسير قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)
قال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]، أي: عمد إليها وقصد لخلقها بعد أن كانت دخاناً ومياهاً وسحباً من بخار البحار ومن أبخرة مياه الأرض، كما نرى السحب الآن، نرى منها الداكنة البيضاء ومنها السوداء ومنها ما بين الأبيض والأسود، فقد كانت من سُحب الأرض ومياهها التي تفور وتتجمع وتصعد إلى الأعالي، فكانت السماء كأنها العهن المنفوش وكأنها دخان في بياض مكبوب في جبال فوقها جبال.
وهذا المنظر نراه من الأرض ونحس به أكثر ونحن في أعلى أجواء الفضاء بالطائرات الضخمة الكبيرة، ويستمر هذا أحياناً ساعات متواصلة، فقد نقطع الست الساعات والسبع وليس فوقنا إلا هذا النوع في السماء، وندخل فيها وهي عن أيماننا وشمائلنا وكأننا نعيش ونطير ونحلق في الدخان، وليست إلا السحب الداكنة المكثفة والماء وبخاره المتصاعد من البحار ومن الأنهار وخاصة عند القيظ وشدة الحر وفي الصحاري.
قال تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا))، أي: للسماء، ((وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)) أمر الله السماء فقال لها: أظهري أقمارك وشموسك ونجومكِ وكواكبكِ، وأظهري خلقكِ في كل سماء من بحار ومما خلق الله مما لا يعلمه إلا الله.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) ومعنى ذلك: أن السماء بكل بقاعها وزواياها وأركانها فيها ملك ساجد أو قائم يعبد الله، فلم يبق بعد ذلك مكان لخلق آخرين، وما قاله الرسول ﷺ حق، وما ينطق عن الهوى، ولكنه قال هذا عن السماء الدنيا التي فوقنا، وهذه فوقها كذلك سماء ثانية وثالثة ورابعة إلى السابعة، وما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، ولا ندري هل هي من أعوام الأرض أو من أعوام الآخرة، والسماء لا يُصعد إليها ولا يوصل لها.
وفي الأحاديث المتواترة المستفيضة في ليلة إسراء النبي عليه الصلاة والسلام أنه لما عرج إلى السماوات على البراق ومعه جبريل وقف جبريل في باب السماء يطرق باب السماء كما يطرق أحدنا باب دار صديقه وأخيه، فقيل: من؟ -أي: أجابه الحرس من ملائكة السماء- قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُذن له؟ قال: نعم.
ففتحت له الأبواب ودخل.
فإذاً: السماء ليست فضاء وفراغاً كما يزعم الملاحدة والجهلة والمرتدون، وما نراه فوقنا من الفضاء هو الذي يقول الله عنه: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [فصلت: ١٢] والسقف هو: ما فوق المصابيح، والمصابيح هي هذه النجوم المنيرة المضيئة.
فالسماء هي السقف، وهذه المصابيح هي النجوم، وليست النجوم هي السماء، كما أنه ليست المصابيح هي السقف، وما بين النجم والسماء مئات السنين، ولا ندري هل هي من سنوات الآخرة أو الدنيا، ويكفي أن تكون من أعداد الأرض؛ فإن الخمسمائة السنة ليست بالشيء القليل، فإذا قال زيد أو عمر: وصلنا إلى القمر أو الفلك الفلاني فليس معنى ذلك أنهم وصلوا إلى السماء، هيهات هيهات! فما هذه الكواكب التي نرى إلا ككوكب الأرض، وهي جزء منها، والوصول إليها -إن صح التعبير- ليس إلا كالوصول إلى قارة من القارات.
ومما يدل على أن ما قاله هؤلاء حقيقة: أنهم أنزلوا معهم أحجاراً وتراباً وحللوه، فوجدوا أن عناصر تراب الأرض وصخورها ورمالها وجبالها هي نفس العناصر التي تكون منها القمر.
وهذا من معجزات القرآن التي شاهدناها وعاصرناها وعشنا في واقعها، فقد قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]، أي: ألم ير هؤلاء الكفار؟ ولم يقل: المؤمنين؛ لأن المؤمنين يعلمون ذلك؛ تصديقاً لربهم ولكتابه ولحديث نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والذي ينكر الحقائق ويتنكر لها ويجحدها هم الكافرون بالله وبكتبه وبرسله.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [الأنبياء: ٣٠]، أي: ما بينهما من هذه الكواكب والمصابيح، ﴿كَانَتَا رَتْقًا﴾ [الأنبياء: ٣٠] أي: كانت متصلة قطعة واحدة ﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠]، ففتق الله تلك الكواكب التي نراها عن الأرض، وهي جزء منها ومن عناصرها ومن طبائعها ففتتت وبعثرت كما نرى، وقد كان هذا في بداية الخلق.
فالله الخالق القادر وحده على كل ما يشاء، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: ١١] والسماء هنا هي العلو والفضاء؛ لأنه لم يكن هناك إلا ماء؛ نتيجة بخار مياه الأرض، فقال للأرض وللسماء: ائتيا طوعاً أو كرهاً، فأمرهما بالإتيان فاستجابتا لما أراد الله منهما وقالتا: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] فأخرجت الأرض بحارها وأنهارها وجبالها وبركاتها وكنوزها وأرزاقها وما يحتاج إليه الإنسان الذي سيُخلق بعد، وهو هذا الإنسان الذي خلقه الله بيده وأخبر بخلقه ملائكته، ثم نفخ فيه من روحه، فكان أبانا الأول آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فوجد الأرض قد خلقت له بما عليها وبما في باطنها؛ ليشكر الله جل جلاله في صباحه ومساه.
وقد سئل الحسن البصري وقيل له: إن الله قال: ﴿اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [فصلت: ١١]، فإن لم يأتيا طوعاً فماذا يفعل بهن ربنا؟ قال: يسلط عليهن صاعقة تحرقهن أو وحشاً يفترسهن، قيل: أو يكون ذلك؟ قال: ولم لا يكون وقد خلق السماوات والأرض؟ فإذا عصتا عوقبتا كما يعاقب كل عاص، ولكنهما استجابتا، وهذه الاستجابة كانت إما بالقول ثم بالفعل، وإما بالقول فقط، وقوله: (ائتيا طوعاً) إما أن يكون بقول الله أو يكون بوحيه، فهو إذا أراد أمراً لا يحتاج أن يقول أكثر من: كن فيكون، وتكون كن إرادية، أي: كن التي يريد الله بها خلق شيء أو موته والقضاء عليه.
فهما قد استجابتا لكل ما أمرهما الله به، وهما خلق من خلق الله وعبيد من عبيده، وهما تحت تدبيره وأمره، والذي أنطق هذا الإنسان أنطق ذاك الجماد، كما ينطق الجلود واللحوم وما لا ينطق يوم القيامة، والذي جعل النطق في اللسان قادر على أن يجعله في اليد والرجل، ونحن نرى اليوم من المستنبطات ومن المخترعات ما يزيد المؤمن إيماناً وهدى لو سبق في علم الله تعالى هدايته.