تفسير قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين)
قال تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: ١٢].
قضى جل جلاله، أي: أمر وأتم وأكمل وأوحى وجعل، فكان قضاء الله وأمره أن جعل السماوات سبعاً كما جعل الأرضين سبعاً، قال تعالى: ﴿وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢] وهذا ينكره من لا يؤمن بالقرآن، ولا يؤمن إلا بما يقوله اليهود والنصارى ومن ارتد عن دينه وكذب بالرسالات وبما أتت به كتب الله.
وإذا قلنا: إن الأرض وما فيها وما عليها خُلقت في أربعة أيام والسماوات السبع خُلقت في يومين أصبحت ستة أيام خلق الله فيها السماوات والأرض.
﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ﴾ [فصلت: ١٢] أي: أتمهن وسواهن وأكملهن.
﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ [فصلت: ١٢] أي: أمر وأوحى إليها، والمقصود هنا: إرادته.
وأمر السماء: ملائكتها وحرسها وبحورها وثلوجها ومياهها والخلق الذي فيها والذي لا يعلمه إلا الله.
وفي كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي فيه كل شيء كما قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] ما يؤكد هذه المعاني، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: ٢٩]، أي: ومن دلائل قدرة الله ﴿خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا﴾ [الشورى: ٢٩]، أي: في السماوات وفي الأرض وفي الأفلاك العلوية التي سماها مصابيح، فقد خلق فيها ما يدب عليها، والذي يدب عليها ليس الملائكة، فالملك خلقه الله ذا أجنحة مثنى وثلاث ورباع، والذي يدب على الأرض هو من يمشي على رجلين أو على أربع أو يمشي زحفاً، وهو الذي تمس بشرته الأرض، والذي يطير في الآفاق وفي الفضاء والأجواء لا يقال له: يدب، وإنما يقال له: يطير، والملائكة ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فبعضهم ذو جناحين، وبعضهم ذو ثلاثة، وبعضهم ذو أربعة، وهكذا.
وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام جبريل على صورته التي خلقه الله عليها مرتين قد غطى الأفق بأجنحته وبذاته، فعندما ظهر في الفضاء لم يبق ظاهراً غيره، فقد غطى الكواكب والسماء والأرض، أي: صورة مفزعة مُرعبة، فهؤلاء الذين يطلبون أن تكون الملائكة رسلاً إليهم لو جاءهم الملك بهذه الحالة لرعبوا وفزعوا وما استطاعوا نظراً ولا سمعاً ولا استفادة منه.
فقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ [فصلت: ١٢]، أي: حاجتها من الحرس ومن الملائكة، ومن جند الله ومما فيها من بحار ومن خلق لا يعلمه إلا الله؛ قال تعالى: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا﴾ [فصلت: ١٢] وهي السماء الأولى الدانية الأقرب إلينا، وهي سماؤنا هذه، زينها وجمّلها بمصابيح.
ومعنى ذلك: أن ما نراه من هذه النجوم والكواكب النيرات ليست هي السماء، ولكنها هذه المصابيح المنيرة المشرقة المضيئة، التي زيّن الله بها السماء الدنيا القريبة من الأرض والقريبة من الخلق والبشر.
والمصابيح: جمع مصباح، وهي الزجاجة.
﴿وَحِفْظًا﴾ [فصلت: ١٢]، أي: زيّنها بذلك حال كونها منيرة، وحال كونها حفظاً يحفظ بها السماء من تجسس الشياطين عندما يركب بعضهم على بعض؛ ليسترقوا السمع من الملائكة، وينزلوا إلى الدجّالين والكهنة والسحرة، وقد يصدقون في كلمة ويزيدون عليها تسعاً وتسعين كذبة، والكلمة التي يقولها لا يعلم صدقها من كذبها، ولكنه يتلقفها تلقفاً، ولا يكاد يركب بعضهم على بعض إلا ويأتيه شهاب فيحرقه ويحرق ما يحمله، وقد يفلت منهم واحد أو اثنان فيأتي إلى الكهنة والسحرة ويوحي إليه بكلمة لا يعلم صدقها من كذبها، ومن صدّق كاهناً وهو مسلم لا يقبل الله له صلاة مدة أربعين يوماً.
فقوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا﴾ [فصلت: ١٢]، أي: زيّنها بمصابيح وجعلها حفظاً تحفظ أسرار الملائكة ووحي الله لهم، فهم جند الله الذين لا يعصون الله ويفعلون ما يؤمرون، وسينزل هذا للنبات، وهذا للأرواح، وهذا للأرحام، وهذا للدواب، وهذا للمياه، وكل واحد وفئة منهم لها عملها ووظيفتها، ولا يحصي عددهم ونوعهم إلا الله جل جلاله، فهم أشكال وألوان ورتب ومنازل، وأعظمهم الكروبيون الثمانية الذين يحملون عرش ربك، والملائكة الآخرون يطوفون بالعرش كما نطوف نحن بالكعبة المشرفة.
وقد خلق سبحانه السماء في يومين وخلق الأرض في أربعة أيام، وخلق النجوم والكواكب مصابيح، وهي في الوقت نفسه؛ حرساً وحصناً من الشياطين المتجسسين على الملائكة؛ علّهم يسمعون كلمة، فيكون ذلك سبب رميهم بالشهب التي نراها بين حين وآخر، فيحترقون وكأنهم لم يكونوا.
قوله: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: ١٢]، أي: ذلك خلقه مقدراً بعصر وبوقت وبخلق لا يزيد ولا ينقص، أي: يحصل وقت كذا وسينتهي وقت كذا، و ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦].
و ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ﴾ [القصص: ٨٨].
فتهلك السماوات والأرض ويفنى الملائكة والجن والإنس، ويبقى الله ملك الملوك، فيقول: أين ملوك الأرض؟ أنا الملك، أنا الجبار، أين الملوك؟ فلا يجيبه أحد، فيقول جل جلاله: أنا ملك الملوك، وأنا الجبار، جل جلاله وعزّ مقامه.
ثم بعد ذلك تعود الحياة يوم البعث والنشور إلى الملائكة جند الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وإلى الجن والإنس في الآخرة؛ للحساب وللعرض على الله؛ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨].


الصفحة التالية
Icon