تفسير قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)
قال تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٤ - ٣٥].
يقول ربنا وهو يوازن ويقارن بين الخير والشر، وبين الرحمن والشيطان، وبين الكفران والإيمان: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ)).
أي: لا يكونان سواء في رتبة واحدة ومنزلة واحدة، فالحسنة في معناها الأعم هي الإسلام، والسيئة في معناها الأعم الكفر بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ نبياً وبالقرآن كتاباً.
قال تعالى: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) وكان هذا في مكة، والآية مكية، وأما في المدينة فلم يدفعوا بالحسنة ولا بالمعروف، فإنهم لما حوربوا ظلماً وعدواناً في عقيدتهم وفي أوطانهم وفي أخلاقهم دفعوا ذلك بالسيف والقوة، وكل قوة بحسب عصرها، وكما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠].
ولما كان السيف والرمح والمنجنيق والجواد هي القوة استعملها السلف الصالح؛ لأنها هي قوة الزمان، وأما إذا أصبحت القوة هي الصاروخ والطائرة والدبابة وأنواع التدمير والتخريب إلى القنبلة الذرية وغيرها فسيأمرنا الله أن نفعل ذلك، وأن نتقوى بذلك ونتسلح به، ويدخل ذلك في عموم قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠]، وهذه الأشياء لا تريد أكثر من دراسة سنوات من الشباب وما يشترى به ذلك ويُصنع به، ومع هذا ما لا يزال المسلمون مقصّرين فيه، ويذهبون متسولين إلى دول شرقية وغربية؛ لعلها تتكرم عليهم وتجود لهم بشيء من الأسلحة، ولا تكاد تجود إلا بما أتى عليه الزمان وأصبح لا يصلح لشيء ولا يتم إلا بهم؛ ليبقوا المسيطرين، وتبقى أسرارنا وسلاحنا وجيوشنا وقوتنا بأيديهم، وهذا البلاء هو الذي فتت وحدتنا وأضاع قوتنا وشتت دولتنا وغلّب علينا اليهود إخوان القردة والخنازير وعبدة الطاغوت.
((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) ويبقى معناها كذلك: ادفع بالتي هي أحسن من معنى آخر، ويصلح هذا ادفع بالتي هي أحسن أي: من سابك فلا تسبه، ومن هجرك من المؤمنين فلا تهجره، ومن قاطعك فلا تقاطعه، ومن جهل عليك فلا تجهل عليه، كما قال تعالى في سورة أخرى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩].
هذا المعنى الثاني للآية، وهو الذي قاله جمهور المفسرين للآية: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))، أي: ادفع بالخصلة التي هي أحسن من عملهم ومن خصلتهم وأكرم من فعالهم ومن إيذائهم وظلمهم.
قوله: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))، أي: إذا دافعت قريباً أو صديقاً، والكلام هنا بين المسلمين لا بين المؤمن والكافر، بل الكافر لا بد من حربه وردعه، ولا بد من قتاله وإذلاله؛ لأن في قتاله نصراً للإسلام وفي إذلاله عزاً للإسلام، ومن خالف ذلك وخرج عنه كان كمن اشترى الذل والهوان ورضيه لنفسه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المؤمن لا يذل نفسه).
ويقول الله جل جلاله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: ٨].
ويقول: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩].
فنحن الذين نزعم الإيمان والإسلام الأعلون، فلا يليق باثني عشر ألفاً من المسلمين أن يقبلوا الدنية، فكيف إذا كنا اثني عشر مليوناً؟ وكيف إذا كنا ملياراً من الخلق -ألف مليون من البشر- في شمال الدنيا وجنوبها وفي مشارقها ومغاربها؟ ولكن حقت علينا كلمة العذاب عندما تركنا كتاب الله وراءنا ظهرياً وتركنا قائدنا ﷺ وعصيناه وخالفناه، فأصبحنا كما قال عنا في حياته: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله! أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يُنزع الرُعب من قلوب عدوكم ويلقى الوهن في قلوبكم؛ لحبكم الدنيا وكراهيتكم للموت).
وقديماً قال أبو بكر رضي الله عنه في أول معركة إسلامية بين الكفر والإيمان بعد موت رسول الله ﷺ عندما أرسل خالد بن الوليد قائداً عاماً لقتال المرتدين ومانعي الزكاة: يا خالد! اطلب الموت توهب لك الحياة، ولو طلبت الحياة لأعطيت الموت، والأنفاس والأرزاق معدودة محصية لا تزيد ولا تنقص، فلا الحرص يزيدها طولاً ولا الأمل والطمع ينقصها، فالأعمار قد جفت بها الأقلام ورُفعت بها الصحف، وكان ما كان في اللوح المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يبدل القول فيه لدى ربنا سبحانه وتعالى.
إذاً: فقوله تعالى: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ)) هذا مع الإخوة المسلمين، ادفع بالكلمة الأحسن وبالكلمة الطيبة، ((فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ)).
وسواء كان من أقاربك أو من إخوانك المسلمين، فإذا شتمك فاصبر له، وإذا قاطعك فلا تقطعه، وخاصة إذا كان هذا القريب والحميم زوجة أو زوجاً أو أخاً أو أختاً أو عماً أو عمة أو ذا صلة بك مثل صلة الدم والقرابة، فعامل سوءهم بإحسانك، وقطيعتهم بإكرامك وشدتهم بلينك وتحملهم.
قال تعالى: ((فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ))، أي: فإذا من كان عدواً لك حريصاً على إيذائك والقضاء عليك وإذلالك ينقلب ولياً حميماً وصديقاً قريباً ذا صداقة وأخوة حارتين ويعود حريصاً على قربك وعلى الإحسان لك ويندم على ما صدر منه وبدر.
قال ابن عباس: وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩].
وفي الآية التي عقب هذه الآية يأمرنا الله أن نلتزم مع المسلمين والسماحة والمغفرة والتغاضي عن الذنوب وعن الإساءة؛ سواء كانت بالقول أو بالفعل أو بأخذ المال وعلى أي طريقة كانت، كما قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف: ١٩٩]، أي: ما تعارف عليه الناس من أخلاق وصلاة ومعاملة، ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] والجاهلون هم الذين جهلوا مقامك وجهلوا الأخلاق الفاضلة والسنة النبوية، وجهلوا ما يجب عليهم أن يفعلوه مع إخوانهم المسلمين، فأعرض عنهم، فإذا أنت صنعت ذلك إذا بالعدو يصبح أخاً حميماً كريماً وصديقاً محباً.