تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر)
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤١ - ٤٢].
((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ)) أي: إن الذين جحدوا بالذكر وبالقرآن الذي يذكر الناس بطاعة الله وبما جاء به من أدلة واضحة وبراهين كاشفة، وكفروا بالكتاب وبالقرآن وبكتب السماء، وبما أنزل على أنبيائهم وبما نطقوا به من بشارة الصالحين المتقين، وإنذار الضالين المضلين؛ سيجازون نتيجة كفرهم وجحودهم باللعنة والدخول في النار، كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ)) أي: سيجزون، وحذفت للعلم بها كما يقول ابن مالك: وحذف ما يعلم جائز كما تقول زيد بعد من عندكما وهذا يحدث كثيراً في آيات الله، ومن فصاحتها وبلاغتها يفهمها من له وعي وفهم بالعربية وبلغتها وبنحوها وبقواعدها.
((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ))، أي: الذكر، وهو القرآن الكريم، ﴿لَكِتَابٌ عَزِيزٌ﴾، أي: كتاب عزيز على الله وعلى عباده المؤمنين، فهو في موضع العزة والكرامة والمحبة والعمل به، فهو عزيز مكرم معظّم معمول به؛ لأنه كلام الله ووحيه، وقد جاء للبشر وللجن بشيراً ونذيراً، فقد نطق بالحكمة وبتحليل الحلال وبتحريم الحرام وبالعقائد وبالأخلاق وبما كان وبما سيكون إلى قيام الساعة.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢].
((لا يأتيه)): لا يصل إليه ولا يطمع فيه سواء ((من بين يديه)) أي: حال نزوله وقراءته وجمعه وتلاوته في المحاريب صلاة وتهجداً وتلاوة وعبادة على أي شكل من الأشكال.
((ولا من خلفه)) أي: ولا من بعد نزوله وذيوعه انتشاره وبيان وتفسير الصحابة والعلماء له.
وقوله: ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ)) أي: لن يجرؤ أحد، ولو شاء لما استطاع أن يزيد فيه آية أو ينقص منه آية أو يغيّر منه حركة أو يزيد فيه حركة أو يحذف منه سورة أو يأتي بسورة.
والباطل هو: ما سوى الحق، فلا يأتيه الكذب من ناحية الحقائق التي قالها الله عن الخلق وعن وجود السماء وعن خلق الأرض وأن ذلك في ستة أيام، ومن رفع السماء وجعلها سقفاً محفوظاً، ومن مهّد الأرض وجعل الجبال والوهاد والبحار والعيون والآبار عليها، ومن خلق ما فيها من الشجر والخضرة والطير والحيوان مما ينفع الإنسان ويزداد به شكراً وحمداً لله، فهذا الذي ذكره الله في كتابه كله حقائق، ولم يجرؤ أحد يوماً أن يقول: هذا ضد العلم ومخالف له، أو أن التوراة والإنجيل والزبور أتوا بخلافه، أو أن العلماء اكتشفوا خلاف ذلك.
وأحد النصارى من الفرنسيين كتب منذ سنة كتاباً بالفرنسية وترجم إلى العربية وشاع وذاع بين الناطقين بلغة العرب وسمى كتابه: (القرآن مقارناً بالتوراة والإنجيل)، وخرج فيه بنتيجة -وهو لا يزال على نصرانيته- أن كل ما ذكر القرآن من حقائق الخلق من خلق السماء والأرض والإنسان وطبيعة الوجود من ليل ونهار وصيف وشتاء وكل ما قص من أخبار الماضين وأخبار اللاحقين، وقد مضى على نزوله ١٤٠٠ عام كل ذلك لا يزال العلم يؤكده ويقطع به ويصححه.
وبعد أن كانت القضايا نظريات وخواطر أصبحت تجارب وحقائق أقرها العلم ولم ينفها أحد.
وقال: إن القرآن قد أتى بكل حق، بخلاف ما في التوراة والإنجيل من أباطيل وأضاليل لم يقرها علم ولا دليل التي تؤكد أن الإنجيل والتوراة قد حرفا، وهذا لا شك فيه ولا ريب، وقد قاله الله في القرآن المهيمن عليهما، وأكده الواقع، فالتواراة والإنجيل كانا كتابي توحيد وعبادة لله، ثم أصبحا كتابي وثنية وشرك بالله، فالتوراة تدعو لعبادة العزير وعبادة العجل والإنجيل يدعو لعبادة مريم وعيسى، وكلا الكتابان يقولان ما قاله الله عنهما: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨].
فلم يقتصروا على أن عيسى وحده ابن الله، بل جعلوا أنفسهم جميعاً أبناء الله.
وهم عند الذكر والدعاء يقولون: يا أبانا! الذي في السماء، وهكذا انتقلت التوراة والإنجيل من الحقائق إلى الأباطيل من الوحدانية إلى الشرك.
وقذفا الأنبياء بأنواع الفواحش والمنكرات حتى في المحارم التي يتورع عنهن الفاسق والداعر ومن لا دين له، فقد اتهموا أنبياءهم بإتيان البنات والأخوات وقتل الأزواج واغتصاب بناتهم ونسائهم.
وقالوا عن سليمان: إنه كفر، وقالوا عن الله ما لا يقوله إلا مجنون ذاهب العقل قبل أن يكون ذاهب الدين.
فهؤلاء حرّفوا وهؤلاء بدّلوا، وأما كتاب الله فهو المعجزة السرمدية الأبدية ما دامت السماوات والأرض، واعتبرها كذلك النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن جميع معجزاته قد أدت مهمتها عند نزولها وعملها ولم يبق إلا معجزة القرآن التي رآها المعاصرون لنبي الله عليه الصلاة والسلام ومن جاء بعدهم من القرن الأول وإلى عصرنا، فهو معجزة لنا أكثر مما كان معجزة للأولين.
يقول تعالى هنا: ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)) ونحن نقول: إن هذا صحيح ومؤكد وقد أصبح مقطوعاً به بعد نزوله بألف وأربعمائة عام، وآمن به الصحابة تصديقاً لكتاب الله ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
ونحن نقول ما قاله الصحابة ونزيد: بأننا عشنا في واقع رأيناه فيه وأدركناه وقطعنا به بعد نزوله بألف وأربعمائة عام، فلم يأته باطل ولا تكذيب ولا ما يخالفه لا فيما تقدم ولا فيما تأخر عنه، ولم يغيّر ولم يبدّل، ولم يأته باطل بتغيير أو تحريف أو قلب أو تغيير، فإن وجد في التفاسير قول للمبتدعة أو للضالين المضلين فتلك جرائمهم وسوءاتهم والقرآن منها بريء، والعلماء الصالح منهم والطالح عندما يقولون قولاً أو يؤلفون كتاباً يختمونه بهذه الفقرة: إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني.
وقوله: ((تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) أي: الله هو الذي أنزله على عبده محمد ﷺ وأمره ببيانه وبإشاعته، وبالأمر والنهي به وبيان حلاله وحرامه، وبيان أحكامه وآدابه وعقائده وما فيه من أخبار الأنبياء السابقين وأممهم، واللاحقين من أمة محمد ﷺ إلى البعث والنشور وإلى أن يدخل الجنة من يدخلها ويدخل النار من يدخلها.
فهذه الآية الكريمة هي من تمام إعجاز القرآن بما جاء فيها من أخبار وبأن الله تعهد بحفظ كتابه من الباطل في معانيه وألفاظه وحركاته.
وقد وجدنا الأمر كذلك؛ فأعداء الإسلام والقرآن على كثرتهم ما ادعى أحد منهم قط بأن القرآن فيه زيادة أو نقصان أو أن هناك مصاحف فيها سورة زائدة أو مصاحف فيها سورة ناقصة، وكل ما يذكر من ذلك هو كلام الحمقى والمجانين والكفرة الضائقين، على أنه على ذلك لا وجود لذلك لا في قديم زمان ولا في متأخرة، فهم يقولون قولاً بمعنى أنهم يتمنونه ويسعون إليه.
وهذا كما يقول ضال من الضلال من فراعنة العصر الدجاجلة الذين أخبر النبي عنهم ﷺ بأنه: (بين يدي الساعة ثلاثون دجالاً)، إن اليهود غيروا القرآن وطبعوا نسخاً منه ووزعوها في القارات.
وهو كذب لا يوجد البتة، وإنما أراد أن يقول للناس: زعمتم بأن كتابكم محفوظ وأن الله قد حفظه، وهؤلاء اليهود قد بدلوه وغيروه وشاع وذاع؟ وقد حضرت كما حضر غيري في مؤتمرات بالعشرات في قارات الأرض وخاصة في إفريقيا التي زعم هذا الدجال: أن اليهود طبعوا هذا المصحف ووزعوه فيها، فسألت: هل رأيتم هذا؟ قالوا: سمعنا ولم نر.
وهو إنما قال هذا تشكيكاً للمؤمنين في دينهم، ولا يوجد شيء من ذلك.
﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤١ - ٤٢].
أي: حكيم في أقواله وفي أفعاله وفي قدرته.
والحكمة هي: وضع الشيء في محله بلا زيادة ولا نقصان، والقرآن كذلك؛ لأن المتكلم به هو الحكيم جل جلاله.
وهو الحميد المحمود ذاتاً وصفات وأفعالاً، وهو الذي يحمده الحامدون، وقد بدأ الخلق بالحمد لله، وأنهاه بالحمد لله، وأمرنا أن نبتدئ صباحنا ومساءنا وجميع صلواتنا بالحمد لله رب العالمين، وأن نقول: الحمد لله عند طعامنا وشرابنا وأعمالنا وأذكارنا، وعقب الصلوات والفرائض كلها.
وقوله: ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ)) أي: عزيز على الله، وعزيز على المؤمنين من عباد الله.
وهو كريم في قوله ومعناه، وقد عز عن أن ينال أو يؤتى بمثله أو يتلاعب به، وهيهات هيهات! ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما استطاعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.


الصفحة التالية
Icon