تفسير قوله تعالى: (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل)
قال تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ [فصلت: ٤٨].
وضل عنهم: ابتعد عنهم وبعد وتاه وضاع ما كانوا يدعون من قبل؛ إما لأنها أخشاب وجمادات انتهت وبليت، وإما لأنهم ملائكة وبشر وجن تركوهم ولم يهتموا بهم في دار الدنيا ولم يعترفوا لهم بذلك، وسيسأل الله عيسى عليه السلام: ﴿أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦].
فيتبرأ عيسى عليه السلام منهم، وهذا زيادة في تفحيش من زعموا أن عيسى رباً وإلهاً، وهذا في دار الدنيا قبل الآخرة عندما ينزل من السماء الدنيا، ونزوله من العلامات الكبرى لقيام الساعة وقربها، كما أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويهدم الكنائس والبيع، ولا يترك إلا دين محمد ﷺ دين الإسلام، وذلك بأمر رسول الله ﷺ لا شريعة منه، بدليل أنه سيتبرأ منهم حال وجوده بينهم، وسيهدم الكنائس؛ لأنه لا يعترف بها، ولأنها قائمة على الأصنام والأوثان وعلى أن الله ثالث ثلاثة، ويقتل الخنزير؛ لأنه شعارهم يأكلونه دون غيرهم، وسيجبرهم على الإسلام بحد السيف، إما الإسلام وإما الموت، وإذ ذاك سيعم الإسلام الأرض ولن يبقى إلا مؤمن موحد، ولن يبقى من المعابد إلا المساجد بيوت الله التي يرفع فيها اسمه ويذكر الله فيها كثيراً، لا تلك المعابد التي تدعو إلى الشركاء وإلى الأوثان والأصنام.
قال تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ [فصلت: ٤٨].
(ظنوا) بمعنى: تيقنوا ولا حاجة لهذا، فإن (ظنوا) معناها: غلب ظنهم بأنهم سيعودون إلى الدار الدنيا، وسيتمنون على الله أن يعيدهم إلى الدنيا، فإذا عجزوا ولم تكن لهم هذه الأمنية صاحوا: ليتنا كنا تراباً، ولكن هيهات، لن يعودوا تراباً ولا إلى الدنيا؛ لأن الدنيا قد انتهت وفنيت ولا وجود لها، لأنها عند قيام القيامة تصبح كالعهن المنفوش، وتدكدك الجبال والسماوات، وتهلك الأرض وكل من عليها.
و ((مَحِيصٍ)): فرار.
قال تعالى: ((وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)) أي: يظنون أنه لا مفر لهم من النار ولا مهرب لهم من عذاب الله، وأنه لابد منه، ويظنون ذلك واقعاً بهم، ويتمنون أنهم تستجاب دعوتهم وتحقق رغبتهم في العودة إلى الدنيا؛ ليعودوا للعبادة، ولو ردوا لعادوا لما نهوا، ولما انتهوا عما هم فيه، كما أخبر الله عنهم.