تفسير قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء)
قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [فصلت: ٥٠].
يقول الله عن هذا الإنسان الكافر: ((وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ))، أي: ولئن أعطيناه تكرمنا عليه واستدرجناه أو أطمعناه لعله يتوب ويشكر النعمة.
((وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي))، أي: يتكبر ويتعاظم على الله، ويقول: هذا حق من حقوقي، وأنا صنعت ذلك بالمعالجة وبالأدوية، وبالحرص على جمع المال وبفهم التجارة والزراعة، وبما زاولت وصنعت وفعلت، فهو حق من حقوقي لا دخل لله فيه! وهل هناك شرك أخبث وأقبح من مثل هذا؟! وهذا الذي مسه الخير كان يدعو له ويحرص عليه، وإذا مسه الشر فيئوس قنوط، فإذا أذاقه الله وأطعمه وملكه ومنحه رحمة منه من بعد ضراء مسته، ورفع عنه ضرره ومرضه وفقره، وأعاد إليه رحمته من الأولاد والصحة وجميع النعم التي كان يدعو لها ويحرص عليها يشتد في ذلك ((وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي))، أي: حق من حقوقي وخاص بي، حزته بذكاء وبراعة وسبق.
وعاد في الشرك وأصر عليه وقال: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، أي: لا ساعة ولا قيامة ولا حاجة إلى اتباع ذلك، ولا إلى إتعاب البدن في صلاة وفي حج وفي أعمال، وما هذه إلا أقاويل وكلمات أتى بها الأنبياء؛ ليستولوا على عقول الناس ويحكموهم ويسودوهم كما تزعم الشيوعية اليوم.
وكافر اليوم هو كافر الأمس ما تغير في شيء، فقد جمعهم الشرك بالله والكفر بالأنبياء وإنكار الكتب والرسالات، فإذا مرض تجده في غاية ما يكون من الهلع والانزعاج والقلق، وقد يدعو ربه إذ ذاك نتيجة الضعف حتى إذا صح وعالج نفسه واستجلب أطباء ماهرين وعاد له ماله وربما أكثر منه تجده يزداد طغياناً وكفراً ويقول: هذا نتيجة فن وذكاء وعقل.
قوله: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، فهو في شك منها لم يتيقن بها ولا بوجودها.
فهو يقول: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ))، أي: وما أظن القيامة ولا الساعة قائمة.
ثم يعود فيقول: ((وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى))، أي: وإذا كانت قيامة وساعة وأرجعت إلى ربي بعد الموت وعاد جسدي وذاتي إلي ((إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى))، أي: فكما أحبني في دار الدنيا وأصح بدني وأكثر أموالي وأولادي وأعطاني من الجاه فسيحبني في الآخرة، وسيكون لي عنده الحسنى من الحسنات والمنازل العاليات.
فهو يطمع أن يكون في ذلك مع الدعاة إلى الله من الأنبياء وأتباعهم وخلفائهم.
يقول ربنا جل جلاله: ((فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا)).
وهذا تهديد ووعيد أكيد وابتلاء، فهو يقول لهؤلاء الذين يعيشون في الأوهام وفي الأباطيل وفي الأكاذيب التي لا وجود لها في نفس الواقع: يوم القيامة سننبئهم وسنخبرهم، واللام لام القسم.
((فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا))، أي: سيعرض ذلك عليهم مما كتبه الملكان الحافظان من سيئات ومن شرك ومن كفر بالله، ثم قال تعالى: ((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ)) أي: وليطعمنهم ويعطيهم ويعافيهم من العذاب الغليظ، وليس من العذاب كله، وجزء من هذا العذاب يهلك قارات ويهلك عالماً، فكيف بجسد من عظم ولحم وعصب؟ والموت قد ماته، ولو بقي موت لمات في اليوم مرات، ولكن لا موت، وإنما يحترق بدنه وتذوب أعضاؤه، ثم يعيده الله كما كان؛ زيادة في عذابه وفي محنته، فهو في الاحتضار والعذاب الغليظ، الذي هو شديد أليم، يؤلم من دخله ومن ذاقه ومن ابتلي به.
والغلظ: الكثافة والشدة وما تمجه النفوس ولا تتحمله ولا تطيقه، وفي اللهجات الدارجة الشامية يقولون: فلان غليظ، أي: مؤذٍ بالنظر فيه وبصحبته، وهكذا النار، هي غليظة بآلامها وبهوانها وبحراسها من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من إهانة له وسحب على وجهه وتعذيب له أبداً سرمداً، دهر الداهرين، حيث لا موت لا في الجنة ولا في الجحيم.