تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون)
يقول ربنا: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ [الزخرف: ٤٧] لما جاء موسى بالآيات البينات آية بعد آية، إذا بالكفرة المتقدمين يفعلون ما يفعله الكفرة المتأخرون، يضحكون من دينهم ويضحكون من المعجزات التي أتى بها موسى فقالوا: هذا سحر، وهذه شعوذة، وهذا كذب، وقالوا: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ﴾ [طه: ٥٧ - ٥٨] فأتوا بالسحرة، فغلبهم موسى بمعجزته فآمن السحرة، ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ [طه: ٧٠] ثم تتابعت الآيات والمعجزات من نبي الله موسى وهارون إلى فرعون وملئه وما زاده ذلك إلا طغياناً وتجبراً وهو يدّعي الألوهية، يتأله والله يكذّبه، فعندما جاءهم بالآيات المتتابعات من الضفادع ومن الدم ومن النقص في الأثمار وفي الأنفس وفي الخيرات، ومما أصابهم من الآيات التسع، كانوا يتضاحكون حتى إذا ابتلوا وأرادوا الطعام سبقتهم الضفادع وإذا أرادوا الشراب سبقهم الدم وسبقهم القمل، وغير ذلك من المعجزات التي وردت، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٤٧ - ٤٨] يقول ربنا جل جلاله: أتيناهم بالآيات المتتاليات المتتابعات، وما من آية أتت إلا والتي بعدها أكبر منها، (أكبر من أختها) أي: من قرينتها وسابقتها.
أتاهم موسى بمعجزات وقال لهم: أسلموا وآمنوا بالله، فجميع خلق الله سيموت، وإلهكم واحد فوحدوه، ثم يهددهم بالعذاب إن هم رفضوا توحيد الله، فابتلاهم بالنقص في الأنفس، فأخذوا يموتون الآلاف بعد الآلاف ويأتون إليه مستجيرين مستغيثين وهم يجأرون إليه، ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٩] ويدعو الله أن يرفعه فيرفعه الله، فيعودون لنفس الأيمان ولنفس العهود فيسلط الله عليهم النقص في الثمرات، فتنتشر المجاعة في أرض مصر، وأخذ الناس يموتون جوعاً وعادوا إليه يجأرون، ودعا الله أن يرفع عنهم ذلك، ثم سلط عليهم الضفادع فكانوا إذا أكلوا سبقت الضفادع اللقمة قبل أن يلتقطها أحدهم، ويحاولون أن يبتعدوا عنها وإذا بهم يمضغونها ويبلعونها وهم على غاية من الضيق والضجر، ثم ارتفع هذا البلاء، وسلط عليهم القمّل وإذا به في شعورهم وفي ثيابهم وطعامهم وشرابهم وعادوا وجأروا وصاحوا ووعدوه بالإيمان فرفعه الله عنهم، ثم سلط عليهم الدم فكانوا إذا أكلوا أكلوا دماً وإذا شربوا شربوا دماً وإذا مشوا في الأرض مشوا على الدماء، وهكذا حتى كان الانتقام وكان قاصمة الظهر حيث أغرقهم الله جميعاً، فجعلهم الله سلفاً وعبرة للآخرين، وقضى على حياة فرعون ولم يقض على جسده ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ [يونس: ٩٢]، فأنجاه الله بالبدن ولم ينجه بالروح، ومن ذهب إلى مصر فسيجد في متاحفها تلك الجثث، وفرعون واحد منهم يقيناً بإخبار الله تعالى، وهم يقولون عن المجموعة أنها فراعنة فأخذوا يعتزون بها، وعادوا لرفع شأنها والتمسك بها.
﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٤٨] أي: وأخذهم الله وعاقبهم بعذابه وانتقامه بمختلف الآيات البينات والمعجزات الواضحات التي أتى بها نبي الله موسى وهارون، فما زادهم ذلك إلا عناداً وجحوداً ولم يرجعوا للإيمان والتوحيد وطاعة موسى وهارون، ثم أخذوا بعد ذلك يجأرون ويضرعون فقالوا: ﴿يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٩] قال قوم: كلمة الساحر كانت عندهم بمثابة العالم والكبير والعظيم، فكأنهم قالوا له: يا أيها العالم والخبير! ارفع عنا هذا البلاء بما أعطاك الله من النبوة والرسالة التي أكرمت بهما، والمحبوبية التي زعمتها، فادع الله لنا أن يرفع عنا هذا البلاء وهذا الغضب ﴿إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٩] أي: نعدك بأننا سنهتدي، و (مهتدون): اسم فاعل بمعنى الحال والمستقبل، أي: سنهتدي وسنؤمن لك وبرسالتك وسندين بدينك ونترك فرعون وتألهه وربوبيته.


الصفحة التالية
Icon