تفسير قوله تعالى: (ونادى فرعون قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر)
قال تعالى: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: ٥١]، فإحدى دلائل فرعون أنه يحكم مصر، وما مصر بالنسبة للعالم إلا كواحد في المليون، فهنالك قارة آسيا مع سعتها وعرضها وبقية قارات الأرض، ولكن فرعون لسخافة عقله ولجنونه ولكفره ولعناده ظن أنه بحكمه لمصر سيصبح إلهاً يرفع ويضع ويقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، و ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨].
فنادى في قومه، أي: صاح وهو فاقد عقله ومنطقه بعد أن جاءه موسى بما جاء من البينات الواضحات والمعجزات الكاشفات، فنادى في قومه بعد أن جمعهم وخطب فيهم وادعى الألوهية كما يدعيها بعض حكام فارس.
وكان الرشيد رحمه الله يقرأ هذه الآية وإذا به يضحك ويعجب كيف أن فرعون يدعي الألوهية لكونه يحكم مصر وما مصر بالنسبة لدولة هارون إلا جزءاً من الآلاف، فقد كان رحمه الله يحكم المشرق والمغرب وجميع الأقاليم، فقال: والله لا يحكمها إلا غلامي المكلف بأموري، فذهب هذا الغلام الخصي ليحكم مصر فوجد ما وجد فيها، ثم قال: والله لن أحكم بلداً حكمها فرعون ورفض عبد هارون أن يحكم مصر التي حكمها من ادعى الألوهية، وجعلها دليلاً على ألوهيته.
ثم وليها كافور الأخشيدي مملوك أجعد الشعر أفطس الأنف لا يرى منه أبيض إلا أسنانه وبياض عينيه، فحكم مصر أحسن حكم عدلاً وعلماً وأمناً، وقضى على كل فتنة وفساد، حتى قال الناس: أين كافور من فرعون المتأله الكاذب على الله؟ الذي قال: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: ٥١]، أي: ألا ترون أني حاكم مصر، وهذا النيل يجري من تحت قصوري وبساتيني وأتحكم فيه وأحوله يميناً إن شئت ويساراً إن شئت، وكل إنسان يفعل ذلك.
فـ فرعون لم يخلق الناس ولم يخلق مصر ولم يخلق ما يدعيه.
ثم زاد فتطاول على نبي الله موسى فقعد يقول: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢]، فنظرته نظرة الكافر المشرك إلى أحد أولي العزم من الرسل، ووصفه بالمهانة، ثم قال له من بعد: ﴿فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ﴾ [الزخرف: ٥٣] فهذه الآية تبين أن فرعون مهين؛ لأن نبي الله موسى لا يلبس أساور النساء في يديه كما يلبسها فرعون، ولا يضع أصناف اللؤلؤ والمرجان في عنقه كما يضعها فرعون، وهل يعجز موسى ذلك؟ وماذا عسى أن يكون هذا الذهب واللؤلؤ؟ ولكن العقول الكافرة تكون قد تقذرت وتوسخت وصارت لا تقبل فهماً ولا نوراً، ولا ما يقبله ذوو العقول السليمة، ولذلك وصف الله هذه الطبقة بأنها كالأنعام بل هم أضل قال تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان: ٤٤]، فهم أضل من حميرهم ودوابهم وهوامهم.
وقوله: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ﴾ [الزخرف: ٥٢]، فصفة فرعون كما جاء في كتبهم أنه كان أشبه بضب طوله كعرضه، وكانت عيونه بارزة وأسنانه بارزة وأنفه أكبر من شفتيه، وشفتاه تكاد تكون أكبر من يديه، وهو يمشي كمدحلة الأرض، ينطق صياحاً، ويتحرك تحركات المجانين، وتصرفاته تصرفات مجانين، فكيف يصف نفسه بالجميل والشريف وبأنه خير من أنبياء الله؟! ولماذا قال عن موسى ذلك، وهو لم يأت بالأساور في يديه، ولا بعقود اللؤلؤ في عنقه، وكان ذلك عندهم علامة الشرف والقيادة والإمارة؟ وفسر بعض المفسرين قوله تعالى: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ﴾ [الزخرف: ٥٢] بل أنا خير، ولا حاجة لذلك، ثم يتساءل ويقول: ﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: ٥١] أي: أليس عندكم أبصار ترون بها الأنهار تجري من تحتي والوديان أمامي وأحكم على من أشاء بالقتل أو التعذيب ممن يتعرض لي؟ أليس هذا دليلاً على أنه إله ورب؟ هكذا خطر في بال هذا الأجدب الأبله الذي فقد عقله قبل أن يفقد دينه، ثم أراد أن يفعل موازنة ومقارنة بينه وبين نبي الله، فله في مصر حكم وسلطان وربوبية، وهو خير من موسى وأبهى منه وأجمل؛ لأن في يديه الأساور وفي عنقه إلى صدره عقود من الزبرجد والمرجان وتخيل نفسه أنه أنثى، فينتهي به الرياء والفخر إلى هذا الحد، فليست الأساور من شأن الأنبياء ولا من شأن الرجال.
وقوله: ﴿وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢]، أي: لا يكاد يفصح؛ لأنه كان به لثغة، وكان فرعون سبب ذلك، فعندما ألقته أمه في النيل بأمر الله تعالى بعدما وضعته في الصندوق وإذا به يقع في يدي جواري زوجة فرعون فأخذته فإذا هو قمر عليه إشراق فتبنته، وقالت لـ فرعون: عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، وبعد إلحاح تركه لها، وقال: لا حاجة لي بنفعه، ولو قال ما قالته زوجته لانتفع به، ولذلك لم ينتفع به ولا بوجوده في داره فتربى في بيت من سيكون سبب هلاكه والقضاء عليه، وفي يوم من الأيام دخل فرعون القصر، فأخذ موسى وعمره سنة فوضعه في حجره فإذا به يمسك بلحيته فيجره إليه حتى نتف منها شعرات، وإذا بـ فرعون يضج ويقول: هذا إسرائيلي وكاد يذبحه، فقالت له زوجته: يا فرعون كيف تقول هذا لصبي أرعن لا يفهم وإذا شئت أن تمتحنه فافعل، فائت بجمرة وتمرة فإن أخذ التمرة فهو عاقل، وإن أخذ الجمرة فهو طفل لا يدرك، فأخذ الجمرة فقذفها في فيه فحرقت لسانه فبقيت تلك اللثغة في لسانه، ولكنه دعا الله جل جلاله أن يرفعها عنه عندما كلفه بالرسالة فقال موسى لربه في طور سيناء: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ [طه: ٢٥ - ٣٢] إلى آخر الآيات.
فاستجاب الله له وحل تلك العقدة وأعانه هارون بفصاحته وببيانه وبخطابته وبدعوته، فكل ما دعا الله به استجاب له فيه، قال له الله كما حكى لنا في القرآن الكريم: ﴿أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: ٨٩]، أي: أجيبت دعوة موسى وهارون.
ولكن مع هذا فإن موسى من بني إسرائيل واللغة القبطية دخيلة عليه، وقد يكون قد تعلمها تعلم الأجنبي للغة الأجنبية، فلم يكن يتقن النطق بها، إضافة إلى اللثغة التي بقيت في لسانه، فلا يكاد يجيد القول ولا يفصح الكلام لهذه اللثغة.
وقوله: ﴿فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ﴾ [الزخرف: ٥٣] يقول: لماذا لم تكن أساور الذهب في يد الرجل الذي ادعى النبوءة؟ وكيف سيكون حال هذا النبي عندما يكون في صورة هندي عليه الذهب والفضة؟ أيقبل هذا؟ ولكن عقل فرعون تصور أن يكون نبيه أشبه بأنثى والذهب في اليد والعقود في العنق، وأسورة: جمع سوار.
وقوله: ﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ [الزخرف: ٥٣]، أي: لماذا لم تأت الملائكة تحرسه، وتحفظه، وتؤيده، وتصحبه؟ ومن أدراه أن الملائكة ليسوا معه؟ فهو أحقر من أن يراهم بدليل أنه عجز عن أن يصنع به شيئاً، فقد جاء موسى إلى فرعون وقومه وكلهم أعداء ألداء كفرة يؤمنون بـ فرعون إلهاً، وموسى وحده بينهم، وقد هاجم فرعون وكذبه ودعاه إلى عبادة الإله الحق، وأنه ليس إلهاً، فلم لم يقتله؟ ولم لم يقم في وجهه؟ وهو قد هدده وقال لهم: دعوني أقتل موسى وليدع ربه، فلم لم يفعل؟ فلو حاول ذلك لانطبقت عليه السماء والأرض ولأصبح كالأمس الدابر، ولكنه أعجز من ذلك.
وقد سبق أن جباراً من جبابرة قريش وهو أبو جهل أراد أن يضرب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بالله تعالى يريه فحلاً من فحول الجمال بجانب النبي عليه الصلاة والسلام فاتحاً فاه وكأنه فم بئر يريد أن يفترس أبا جهل وإذا به يفر ويتراجع.
فالله حفظه وصانه، والملائكة معه لا شك ولا ريب، ولذلك فإن فرعون لم يتجرأ عليه دون أن يرى الملائكة، وقوله: ﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ [الزخرف: ٥٣] أي: جاءوا أقراناً مماشين له بعضهم عن اليمين وبعضهم عن الشمال وبعضهم أمامه وبعضهم خلفه، فقد تصوره كملك من الملوك يحتاج إلى الجند يصاحبونه أماماً وخلفاً وعن اليمين وعن اليسار، فالنبوءة شيء آخر، وكل ما على الدنيا بالنسبة لمنصب النبوءة ومنصب الرسالة إنما هو كمنزلة العبد من السيد الكريم، ولذلك عندما قال أبو سفيان وقد كان قائد الكفر في حرب النبي عليه الصلاة والسلام، عندما قبض وهو خارج مكة والجيش النبوي داخل لمكة سلمه النبي عليه الصلاة والسلام للعباس وكان شريكه في الجاهلية وإذا العباس يقوم ويقف بجانبه، فرأى جيوش الله المظفرة وأخذ يسأل: من هؤلاء؟ من هؤلاء؟ فرأى الميمنة والميسرة والمقدمة والمؤخرة والقلب وفيه نبي الله عليه الصلاة والسلام وكل على غاية ما تطيب النفس له، فسأل العباس عن هؤلاء فأجابه، فقال أبو سفيان: لقد أصبح يا عباس! ملك ابن أخيك عظيماً، قال: صدقت إنها النبوءة، قال: أما هذه فوالله لا يزال في قلبي منها شيء.
وكلامه هذا نتيجة النزاع القبلي والذي كان قبل النبوءة، وأنه بعقله وبفهمه أصبح ملكاً، وهو أعظم من ذلك، وما الملوك بالنسبة إليه وللأنبياء أمثاله إلا تابعون له ول


الصفحة التالية
Icon