تفسير قوله تعالى: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو)
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨].
يخبر الله عنهم أنهم يجادلون بالباطل ويحاولون أن يدحضوا به الحق وهيهات هيهات! وقالوا: أآلهتنا خير إن كانت في النار أم عيسى والعزير والملائكة؟ وهم يقصدون بذلك مناة والعزى وبقية الأصنام، يقول الله جل جلاله: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨] أي: شديدوا الخصام بالباطل يجادلون بالباطل بلا دليل عقلي ولا نقلي، قال تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان: ٤٤].
فكيف يوازن بين جماد وحيوان، وبين نبي من أنبياء الله أو ملك من الملائكة أو صديق من الصديقين وبين هؤلاء الأصنام؟ وأي طريق أو برهان يمكن أن يوازنوا فيه بين نبي أو عبد أو صديق أو رسول وبين وثن وجماد لا يعقل ولا ينطق؟ ولذلك يصفهم الله ويقول: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨]، أي: إضافة إلى الجدال والخصام بالباطل والاستدلال بالهراء والتمسك بما لا يصح عقلاً ومنطقاً ونقلاً إنما أرادوا أن يقولوا ما يعتقدونه في أنفسهم من باطل وضلال، والأمر كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما ضل قوم بعد هدى إلا وأعطوا الجدل)، أي: ما انتقل قوم من الهداية والنور إلى الضلال والردة إلا وأعطوا الجدل، ولذلك تجد أصحاب المذاهب المبتدعة الضالة التي لا حظ لها في الإسلام من أكثر الناس جدالاً وخصاماً ولعباً بالأدلة والبراهين وتأويلها والخروج عن ظاهرها والكلام عن بواطنها بما لا يقره صاحب منطق ولغة ولا يوجد له نظير.
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (اختلفت اليهود على واحد وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستختلف أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي)، وهؤلاء هم الذين طبقوا ما قال الله وما قال رسول الله ﷺ من الهدي النبوي وسلوك الأصحاب من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، فرضي الله دينه وعبادته ورضوا عن الله في جميع ما أكرمهم به وعاملهم به وقضى عليهم به.
وقوله: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا﴾ [الزخرف: ٥٨]، أي: ما جعلوا ابن مريم مثلاً بالأصنام إلا جدلاً بغير منطق وعقل وغير حق وغير دليل وبرهان، لا من منطق عقول ولا من منطق نقول.
وقوله: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨]، أي: بل هم قوم خصام وجدال وكلام بالباطل وبغير الحق، ولا يكون الحق إلا من عقل تشرق فيه أنوار الهداية، أما الكلام المقابل للمنطق والدليل فهو الهراء والجدال والخصام، وقد ورد النهي عن الجدال في الدين، أما المحاورة بالدليل والمناظرة بالبرهان والمذاكرة بما يثبت الحق ويدحض الباطل فذاك مطلوب، ويجب أن يكون ذلك في أهل العلم طلاباً وأساتذة ودعاة إلى الله، ويبقون كذلك حتى إذا انتقلت المحاورة والمناظرة من المنطق والحق والهداية إلى الخصام بلا دليل ولا برهان يجب على من يدير الحديث من أهل العلم أن يقطع الحديث؛ لأنه عندما ينتقل من الحوار بالحق إلى الجدال بالباطل فما هو إلا بعد عن الحق وإغراق في الباطل، وما ذكر عن فساد الجدال والخصام بالباطل هو بهذا المعنى.
وقوله: ﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا﴾ [الزخرف: ٥٨] هذا استفهام، أي: تلك الأوثان والأصنام من مناة والعزى ومن بقية الأحجار التي لا حراك بها ولا تشعر بباطل ولا بحق إن هي إلا جمادات لا تضر نفسها ولا تنفعها، فكيف بأن تنفع غيرها أو تضره.


الصفحة التالية
Icon