تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب)
قال تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: ٧١].
يقول ربنا واصفاً لهؤلاء الأزواج الذكران منهم والإناث عندما ينادون فيها بأنهم لا يخافون ولا يحزنون، فيؤمرون من قبل الملائكة بأمر الله أن يدخلوا الجنان متنعمين مسرورين مكرمين.
وقوله تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ [الزخرف: ٧١] أي: من قبل الولدان الذين هم خدمهم وحشمهم، كأنهم اللؤلؤ المكنون، ومن زوجات طاهرات.
وقوله تعالى: ﴿بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ﴾ [الزخرف: ٧١] أي: موائد الطعام تكون من ذهب، والأكواب: جمع الكوب، وهو الكأس الذي لا أُذن له ولا خرطوم ولا مقبض، ويسمى عندنا الفنجان.
هذه الأكواب كذلك من ذهب، وهم يطاف عليهم بالمآكل والمشارب، ولابد للأكل من شراب، ولا يكون شراب بلا طعام.
هذه الجنة يصفها الله بقوله: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ [الزخرف: ٧١]، في الجنة كل ما تشتهيه نفس الإنسان، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع لحوم الطيور، ولحوم الحيوانات التي تمشي على أربع، ولحوم الحيوانات العائمة، ومن أنواع الفواكه والمطاعم والمشارب والملابس مما تشتهيه نفس الإنسان وتلذ عينه برؤيتها والتمتع بها تمتعاً عينياً وتمتعاً نفسياً.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن آخر إنسان يدخل الجنة ويخرج من النار رجل من الموحدين، يكون قد أذنب ما شاء الله له من كبائر، فيعذب في جهنم ثم يخرج منها، فكل من مات وهو يقول: لا إله إلا الله، ناطقاً بها لسانه، معتقداً بها جنانه، كان مآله الجنة، إما أن يغفر الله له ولا يدخل النار، والأمر أمر الله: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت: ٢١]، يغفر لمن يشاء ويحاسب من يشاء، وإما أن يعذب ما شاء الله له تمحيصاً له وتأديباً، والنتيجة الجنة.
وعندما يشتد عليه العذاب النفسي بأن يبقى وحده في جهنم وهو من الموحدين ووجهه إلى النار، يقول: (يا رب، هذه النار قد لفحني حرها، وآذاني لهيبها، وطال بي مكثها، فيا رب وجه وجهي إلى الجنة عسى أن يؤثر علي نعيمها، فيقول له الرب: عاهدني ألا تسألني مرة أخرى، يقول: يا رب وذاتك العلية ومقامك العظيم لا أطلب شيئاً سوى ذلك، فيستجيب الله له، فيوجه وجهه إلى الجنان فيستريح بالنعيم، وإذا به لا يستطيع أن يصبر على ذلك فيدعو الله ويتضرع إليه، فيقول: يا رب! أنت المسئول والمطلوب لا غيرك، أطلب منك أن تخرجني من النار وتضعني على باب الجنة، فيقول الله له: ما أغدرك يا إنسان، ألم تعطني المواثيق والعهود أنك لا تسألني شيئاً؟ يقول: يا رب، كرمك أكبر مني وأكبر من مواثيقي، ويعطيه من العهود والمواثيق، فيخرجه الله من النار! ويوقفه على باب الجنة، ويستريح من عذاب الله ويجد الرائحة، فيرى الناس يتمتعون وهو بعيد عنهم، فيضرع إلى الله ويصرخ ويقول: يا رب، كرمك أوسع مني، وجودك أكبر مني، أدخلني الجنة ولا تجعلني أذل خلقك، ويقول الله ما قال له في المرة الأولى والثانية، ثم بعد ذلك يدخله الجنة ويقول له: تمنّ؟ فيقول: أريد وأريد كذا وكذا، فيذكره الله ويسدد أمانيه فيقول ما ذكره الله به، وإذا بالجواد الكريم الغفور الرحيم يقول له: لك ما تمنيت ومثله معه).
يروي الحديث أبو هريرة في مجلس من الأصحاب والأتباع، فيقول له أبو سعيد: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: (لك ما تمنيت وعشرة أمثاله)، فيؤكد أبو هريرة ويقول: هذا الذي سمعت، ويؤكد أبو سعيد ويقول: هذا الذي سمعت، فكلاهما صادق، وهما من الأصحاب الذين قال عنهم الله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة: ١١٩].
فآخر من يدخل الجنة وهو أكثر المؤمنين عذاباً لمقامه الطويل في النار له مثل نعيم الدنيا عشر مرات، وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام ما له من أجور وما له من حور عين بقوله: (ما بين أملاكه وقصوره مسافة ألفي عام) أي: بالتنقل بين ذلك، فهذا أقل أهل الجنة متعة بما في الجنان من خيرات وأرزاق ومتاع، وللموحد علامة في جبينه، فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أن النار لا تحرق جباههم)، تكريماً للجبهة التي تسجد لله موحدة ذاكرة عابدة، وعندما يؤمر حرس النار بأن يخرجوا الموحدين فإنهم يعرفونهم بهذه العلامة، وعندما يدخلون الجنة تنقلب عليهم هذه العلامة علامة بؤس وحزن وألم، ويقال عنهم (الجنهميون) الذين كانوا يوماً ما في جهنم، فيضرعون إلى الله ويبكون من هذه السمة التي أحزنتهم وآلمتهم ولا ألم ولا حزن في الجنة، فيكرمهم الله بإزالة تلك العلامة ويكونون كغيرهم، فلا يعرفون من دخل الأول ولا من دخل الآخر، فهذا آخر موحد يدخل الجنة له فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يطاف عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب، فيها من أنواع الطعام ومن أشكاله وألوانه ما لا تنقطع شهوته من أول مائدة إلى آخرها، ثم يقول وهو مبتهج لا يكاد يعرف ما يخرج منه، يقول: يا رب، هذا كثير وأريد أن أضيف جميع أهل الجنة على مائدتي، وهو لا يعلم إلا بعد زمن أن مائدته هي أقل موائد سكان أهل الجنة، وهم فوقه درجات).
ومن المعلوم في الشريعة: أنه كما أن النار دركات فالجنة كذلك درجات، وما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، ولا ندري هل من أعوام الدنيا أو من أعوام الآخرة؟ التي يكون اليوم فيها: ﴿كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: ٤٧].
وقد يتساءل بعض المسلمين ويقول: نحن إذا مكثنا يوماً أو يومين فإننا نشعر بالملل إن كنا بلا شغل، والجنة لا شغل فيها ولا عمل ولا عبادة ولا تكليف، فلماذا لا نمل؟
و ﷺ لو فرضنا أن إنساناً أعطي حريته في التصرف في الأرض وأخذ يتنقل من قارة إلى قارة، ومن باخرة إلى طائرة إلى قطار إلى سيارة، إلى أخ إلى صديق إلى حميم إلى قريب، وهو في كل اجتماع وكل دورة وكل جلسة يكون فيها ما ليس في الأولى، فإنه لا يمل ولا يكل، فكيف بالآخرة؟ فأهل الجنة يتزاورون فينزل من في الدرجة العليا إلى من هو في الأسفل، وهكذا تجدهم من مكان إلى مكان، فالإنسان بزوجة واحدة إن كانت مطيعة تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، تجده يشعر معها بغاية البهجة، فكيف إذا كان عنده من الحور العين اثنتان وسبعون حورية، الواحدة منهن إذا أطلت على الدنيا عطرت الدنيا بريحها وبطيبها، فكيف بهن جميعاً؟ وهو يتنقل من واحدة لواحدة وهن مقصورات في الخيام، يقلن له: نحن الراضيات فلا نغضب، ونحن المقيمات فلا نخرج، ونحن الدائمات في طاعتك وفي خدمتك وفي البر بك، ثم إذا دخل يجدهن يتغزلن فيه: خرجت وأنت جميل! وعدت وأنت أجمل! وأكمل، وعدت كذا وكذا.
وفي الدنيا إخوان في الله وأقارب، فنرى آباءنا وأمهاتنا، فكيف إذا رأينا هناك الآباء، وآباء الآباء، والأجداد وأجداد الأجداد والأم وأم الأم، وبقية الأمهات؟ فسنتعرف هناك بفضل الله وكرمه على خلق كثيرين هم لنا أقارب قبل أن يكونوا أصدقاء وإخواناً، ونحن في الدنيا لم ندركهم ولم نعرفهم ولم نرَ إلا اسمهم، فكيف يمل ويسأم الإنسان؟ وأعظم نعمة في الجنة وألذها النظر إلى وجه الله تعالى: (عندما يتجلى الحق لهم، ويقول لهم: هل أزيدكم؟ فيقولون: يا رب قد أعطيتنا وأمتعتنا وأكرمتنا، فيكشف عن وجهه الكريم).
فتكون تلك اللذة لذة روحية تبتهج بها النفس أعواماً، وذاك حين يقول ربنا جل جلاله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣]، وجوه تعرف فيها نضرة النعيم وراحة النعيم، وجمال النعيم، ونعمة النعيم، وهي في هذه الحالة إلى ربها ناظرة، أما غير المؤمنين فهم في الأصل محجوبون لا يرون الله تعالى.
وفئات من مذاهب المسلمين المبتدعة ينكرون رؤية الحق، وقال أهل السنة والجماعة: كفى هؤلاء حرماناً أن يمنعوا هذه الرؤية التي أنكروها، مع أنها في القرآن نصاً، وفي الأحاديث النبوية ثابتة تواتراً، ولا ينكرها إلا جاهل ومخذول، مبعد عن نعيمها، وعن روحيتها.
قال تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: ٧١].
هذه الجنة التي كما وصفها الله: ﴿فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ [الزخرف: ٧١]، وكما وصفها رسول الله ﷺ وعلى آله: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
فالمسلمون فيها خالدون، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: ٧١]، وخاطب الله المسلمين بخطاب الحضور تكريماً لهم.


الصفحة التالية
Icon