تفسير قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة)
قال تعالى: ﴿وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: ٨٦] هؤلاء الذين يعبدون من دون الله من جماد أو حيوان أو ملك أو جن أو إنس لا شفاعة لهم، بل المشركون وما يعبدون حصب جهنم هم لها واردون، ولكن من شهد بالحق وهم يعلمون فإن لهم الشهادة، وهذه الفقرة من الآية تعم وتخص، فمما يعبد المشركون الصالحين، والملائكة، وعيسى، ومريم، وعزيراً، وهؤلاء يشهدون بالحق، ويشهدون بشهادة التوحيد لا إله إلا الله، وهم يعلمون ذلك على بصيرة، فشهادتهم شهادة حق، وشهادة علم، فهؤلاء أذن الله لهم بالشهادة ومن دونهم ليسوا كذلك.
وأخذ فقهاؤنا من هذه الآية أنه لا تقبل الشهادة إلا بعلم، فلا تقبل شهادة السماع، فلا بد أن يكون الإنسان قد شهد بالحق وهو يعلم ذلك الحق واطلع عليه وعاش في واقعه وعلم به، وليس كمن يقول: سمعت أو بلغني أو رويت، ولذلك الشهادة على ما تستباح به الأعراض والدماء والأموال لا تكون إلا من مزكيين، ولا تكون الشهادة شهادة بحق إلا مع علمهم بذلك الحق علماً شخصياً لا شهادة سماع.
قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: ٨٧] هؤلاء الذين جعلوا مع الله شريكاً؛ ولداً، أو بنتاً، أو صاحبة، أو أبناءً، أو شركاء، سلهم: من خلقهم؟ فسيجيبونك: خلقنا الله، وقد فعل ﷺ فسأل من عاصره عمن خلقهم، فقالوا: الله، قال الله عنهم: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: ٨٧] فكيف مع علمهم بأن الله خالقهم ومولاهم ومدبرهم يصرفون ويدفعون عن الحق، فيعبدون مع الله غيره وهو لم يخلقهم ولم يدبر لهم ولم يرزقوهم ولم يكن له عليهم ولاية لا بخير ولا بشر.
فليس هذا شأن العقلاء، ومن هنا نرى أن الجاهلية العربية أشرف -على وثنيتها- وأكرم -على جهلها- من كفر المذاهب الهدامة الباطلة التي تنكر الخلق والخالق، والتدبير والمدبر، والرزق والرازق وتقول: إن هو إلا الدهر؛ لأن أصحاب هذه المذاهب يعيشون كما تعيش الحيوانات، لا يفكرون في آخرة، ولا يفكرون في أنفسهم، بل يزعمون أنهم يعيشون ويموتون وأنه لا يهلكهم إلا الدهر ولا شيء آخر، فأصحاب الجاهلية الأولى على شركهم يؤمنون بالله ولكنهم لم يحسنوا هذا الإيمان وخلطوا معه شركاً، أما هؤلاء فنزعت عقولهم بالمرة، وأنكروا ما هو حال وقائم بخلقهم وبفعلهم وبرزقهم: ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فالإنسان يعرف وجود الله جل جلاله في خلقه الليل والنهار، والفصول الأربعة، وموت الناس وإحيائهم، ورزقهم وغير ذلك، والإنسان يتساءل بفطرته: من خلقني وخلق الكون؟ ومن رزقني وأنشأني وأصحني وأمرضني وأحياني وأماتني؟ فيستشعر لأول وهلة وتقول حواسه وجوارحه أنه هو الله، بل حتى الحيوانات والجن، وكذلك الكافر بحواسه وإن أنكره جنانه ولسانه، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: ٨٧] يقولون ذلك متأكدين، ويقسمون عليه بلام جواب القسم، ويؤكدونه بالنون المثقلة، بأن خالقنا هو الله.
وقوله: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: ٨٧] يقول ربنا عنهم: إن كانوا كذلك، وقد علموا الحق وأعلنوه واعترفوا به، فكيف صرفوا عنه، وعبدوا مع الواحد اثنين، وعبدوا مع الخالق خلقاً؟ فهذا منتهى سخافات وضياع العقول.


الصفحة التالية
Icon