تفسير قوله تعالى: (حم)
قال تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان: ١ - ٣].
قوله تعالى: ﴿حم﴾ [الدخان: ١] هو من الحروف المقطعة، وفيها أقاويل وآراء من الصحابة ثم التابعين، فبعضهم قال: هي من أسماء الله الحسنى.
والبعض قال: (حم) أي: حم القضاء ونزل أمر الله.
ومنهم من قال: هي رموز لمعان، ومنهم من قال: ذلك للدلالة على أن القرآن المعجز مكون من الحروف الأبجدية العربية، فالقرآن هو الكتاب المعجز الذي عجز البشر عن أن يأتوا بمثله وتحداهم الله فقال: ﴿لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨]، وهذا التعجيز كان منذ (١٤٠٠) عام، وهذا من معجزات القرآن، فلم يأت أحد بليغ ولا فصيح بما يشبه فصاحة القرآن وبلاغته من قريب أو بعيد وقد قال بعض الناس: ما وجه الإعجاز ما دامت حروف الهجاء العربية قد أخذ منها هذا القرآن وهو بلسان عربي مبين، فما يمنعني أن أقول مثله؟! قال هذا المعري الشاعر الشامي، فأتى بالغث من القول وما يضحك الثكلى.
وهناك مجنون أرعن ادعى النبوة وكتب للنبي صلى الله عليه وآله في حياته: من مسيلمة نبي الله إلى محمد نبي الله، فكتب له ﷺ (من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب)، ومنذ ذاك صار واسمه مسيلمة الكذاب، فكان يأتي بالغث من القول ويقول: أوحي إلي به.
وجاءه مرة عمرو بن العاص وهو لا يزال على كفره من مكة، فقال: إيهٍ يا مسيلمة، ما الذي نزل عليك من الوحي؟ قال: نزل علي اليوم أن لي نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون! فقال له عمرو وهو لا يزال على شركه: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب.
فلم يصدقه، فأسرع به ذلك إلى الإيمان برسول الله عندما سمع القرآن وفصاحته وبلاغته وإعجازه الذي حضر تلاوته فصحاء العرب وقد أوتوا الفصاحة دون خلق الله جميعهم، فلغتهم أبلغ اللغات وأفصح اللغات وأرفع اللغات وأجمل اللغات، فلما سمعوه قال الوليد بن المغيرة: ما نقول فيه؟ فقال بعضهم: نقول: شاعر، فقال: لقد علمت الشعر فما هو بالشعر، فقالوا: ما تقول فيه إذاً؟! قال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطراوة، وإن أعلاه مثمر وأسفله مغدق.
فمن القرآن يقول: إن هذا هو الكلام الذي بلغ من الفصاحة ومن البلاغة ومن البيان ما لا يكاد يقف عنده عقل، وهذا الذي قيل لا يزال قائماً إلى الآن، فرسول الله عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم، وهو سيد العرب فصاحة وبلاغة، ومع ذلك عندما نأتي إلى فصاحة رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديثه وفي خطابته وفي محاوراته وفي مناظراته ونقيس قوله بقول الله، نجد الفرق كما بين السماء والأرض.
وقد رأينا في عصرنا من هو من أبلغ الخلق، ولا نظن أنه سبقه على مثل فصاحته منذ ألف سنة مثله، وأعني به مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، فقد كان له من البلاغة والفصاحة في القول ما لا يكاد يستطيع أن يقول مثله الكثيرون ممن مضوا، وإلى عصرنا لم يأت مثله، ومع ذلك حين تقيس كلامه مع كلام الله تجد الفرق شاسعاً جداً.
وهناك علامة أخرى، وهي حين تأتي إلى خطبة فصيحة تقرؤها المرة الأولى، فتقول: ما أبلغها ما أفصحها، فإذا قرأتها ثانية نزل إعجابك قليلاً، فإذا كررتها مرات تملها وتطعن في فصاحتها وبلاغتها.
واقرأ القرآن صباحاً ومساء، في شبابك وفي كهولتك وفي شيخوختك، فإذا بك لا تمله حلاوة وبلاغة وفصاحة، فهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلق من كثرة الرد)، فلا يصبح كلاماً بالياً ممجوجاً لكثرة ما تقوله وتردده، بل عند كل ترديد تضيف معنى جديداً وتفهم مغزى آخر، فأنت في علوم ومعارف كلما تتلوه، ولكن بشرط أن تتلوه بوعي وبإدراك وبتدبر، لا أن تتلوه وأنت تحسب حسابك في بيتك وعملك وأوهامك في خيالك، ففي هذه الحالة قد تقرأ الجزء والجزأين وتنسى أين أنت، وإذا طرأ طارئ ووقفت عند الآية ثم أردت العودة إليها فإنك تنسى أين كنت.
يقول تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الدخان: ١ - ٢]، وكأنه يقول: القرآن مؤلف من هذه الحروف، فافعلوا إن شئتم مثله، فهي بأيديكم، وهيهات هيهات، قال بهذا المعنى الزمخشري، وأكده بعض المعاصرين وهو الشيخ الشنقيطي رحمه الله، أدركته منذ سنوات وأنا لا أزال في جامعة دمشق، وعندما وجدت الشنقيطي يؤكد هذا الرأي ويساند الزمخشري زدت ثقة بالفهم الذي فهمته.