تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)
قال تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان: ١ - ٣].
قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) أي: أنزلنا الكتاب، فهذا الكتاب هو كلام الله، وهو قول الله، وهو الذي أنزله جل جلاله على قلب نبيه ﷺ بواسطة رسول الملائكة إلى البشر جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: ٣] يقسم الله بكتابه على أن القرآن الذي أنزله وأوحى به أنزله في ليلة مباركة.
والليلة المباركة قال عنها قوم: إنها ليلة النصف من شعبان، وانتصر لهذا القول تابعون، ووصفوا هذه الليلة بأنها فيها يفرق كل أمر حكيم من الأعمال ومن الأرزاق وكل ما يتعلق بالخلق، ورووا في ذلك أحاديث، منها أن ليلة النصف من شبعان تؤمر فيها الملائكة بكتابة الأعمار والأرزاق والأعمال للخلق مدة سنة.
ولكن تلك الأحاديث المروية يقول عنها ابن العربي المعافري الأندلسي - وهو إمام في الحديث وإمام في التفسير وإمام في الفقه - يقول: لم يصح في ليلة النصف من شبعان في صلاة ولا دعاء، ولم يرد شيءٌ في فضلها البتة، وكرر هذا أعلام جاءوا بعده، وأكد هذا ابن كثير، وقال: من قال ذلك فقد أبعد النجعة، أي: ابتعد عن الحق والصواب في هذا.
والأمر كذلك، فلم ينزل الله هذا الكتاب الكريم في ليلة النصف، ومن المعلوم أن من أصول التفسير أن تفسر الآية بالآية، فالله تعالى يقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: ١٨٥] فالقرآن بنص الآية الكريمة أنزله الله في شهر رمضان، والنصف من شعبان لا صلة له برمضان.
وذكر الله ليلة القدر فقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ١]، فكان نزول القرآن في رمضان وفي الليلة المباركة كما قال هنا، وهي ليلة القدر، أنزله الله جميعاً بأجزائه الثلاثين إلى سماء الدنيا، ثم أخذ جبريل ينزل به على قلب نبينا ﷺ منجماً، أي: مفرقاً حسب الوقائع وحسب النوازل وحسب المصالح لمدة ثلاث وعشرين سنة، فكانت أول آية ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١] وكان آخر آية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣].
وأنزله الله كله قبل ذلك في شهر رمضان في العشر الأواخر في ليلة القدر، فذكر الشهر في آية، وزاد البيان بذكر نزول القرآن في ليلة القدر، وهي ليلة مباركة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: ٣]، وشهر رمضان كله مبارك، أعاده الله علينا بالخيرات والبركات والنصر المبين وذل اليهود وتحطيم النصارى والمنافقين، وأعاننا الله وإياكم على صيامه وقيامه وعبادته، وتقبل الله منا ومنكم ذلك، ورزقنا العون في كل ذلك.
فهو شهر مبارك وهي ليلة مباركة متضاعفة بركتها، وهي ليلة القدر التي قال الله عنها: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: ٣] فهي ببركتها ويمنها ونورها وعبادتها وإشراقها وما قاله عنها ربنا وما ذكره نبينا عليه الصلاة والسلام عنها مباركة كثيرة البركات.
قال تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان: ٣]، أي: كنا في هذه الليلة قد أنذرنا الخلق وأوعدناهم وبلغناهم أنا أرسلنا إليهم رسولاً هو محمد العربي الهاشمي صلى الله عليه وسلم، جاء بشيراً للمؤمنين وجاء نذيراً للكافرين، يبشر هؤلاء بالجنة والرضوان وينذر أولئك باللعنة وجهنم.


الصفحة التالية
Icon