تفسير قوله تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون)
يقول الله جل جلاله: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾ [الدخان: ٢٥ - ٢٧].
يقول الله: هؤلاء عندما غرقوا وانتقم الله منهم لنبيه كم تركوا، و (كم) هنا للتكثير، أي: تركوا الكثير الكثير من الجنات والبساتين والخيرات ومن متنوع الأرزاق من الفاكهة والخضرة والماشية وغير ذلك.
قوله تعالى: (وَعُيُونٍ) أي: ومياه دافقة متدفقة متفجرة كانت على شواطئ النيل يميناً ويساراً بين يدي كل بيت وكل دار من دور هؤلاء، فقد كانوا يعيشون على جنة في الأرض لكثرة المياه وكثرة البساتين وكثرة الخضرة وكثرة الأرزاق الدارة.
قال تعالى: (وَزُرُوعٍ) أي: من أرض مزروعة بأنواع الحبوب وأنواع الفاكهة، وأنواع الثمار وأنواع الزهور والورود وما إلى ذلك، فكانت لهم مزارع وكانت لهم بساتين، وكانت لهم قصور.
قال تعالى: (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)، أي: بيت يقيمون فيه، والمقام الكريم هو البيت الذي يكرم على صاحبه بسعة وبنعمة وبخدم وبحشم وبضيفان، وبسعة في المياه المحيطة به، وبالبساتين التي تزيده رونقاً وتزيده بهاء، ولكن كل هذا قد أزاله الله عنهم ونزعه منهم وسلبهم إياه فملكه غيرهم؛ لأن سنة الله هكذا في عباده، قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧]، فالذي يشكر النعمة يزيدها الله ويوسعها الله ويباركها له، والذي يكفر بها ولم يشكر الله عليها يسلبها الله منه ويعيده للفقر والمرض والبؤس وللحاجة نتيجة الكفران، قال تعالى: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) فعذاب الله هنا يكون بسلب نعمة العافية عن الأبدان، وأخذ الولدان، وذهاب الفاكهة والقصور والبساتين والمقامات الكريمة.
فقوله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾ [الدخان: ٢٥ - ٢٧] يقال: نِعمة ونَعمة، والنِعمة واحدة النعم، والنَعمة هي النِعمة كذلك، وقرئ بهما معاً، والنَعمة هنا تتجاوز النِعمة بالرفاهية والحضارة والأناقة مما يريد الناس في الدنيا من مفارش ومزارع ومساكن وزوجات وأولاد، فكل ذلك كانوا ممتعين به، والله تعالى أمهلهم ولم يهملهم، فاتخذوا من ذلك الإمهال طغياناً وشركاً، حتى ادعى هذا الحقير أنه هو الله الذي خلق لهم النيل والبساتين، وكذب على نفسه وعليهم وعلى الله.
فقوله تعالى: (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) أي: متفكهين، كانوا على غاية ما يكون من الانبساط والسرور والبهجة والبعد عن البؤس وعن الحاجة وعن الفقر وعن الجدب، فأصبحت مجالسهم مجالس مزاح وآداب وقصص وتندر، فلم يكن بهم مرض ولا فقر ولا حاجة، فكانوا يمتعون مادة ويمتعون روحاً من حيث أجسامهم ومن حيث أرزاقهم، أما الله فهم عنه معرضون، بل عبدوا فرعون واتخذوه رباً من دون الله، وهو كاذب في دعواه.


الصفحة التالية
Icon