تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢].
يخبر ربنا جل جلاله بأنه اختار بني إسرائيل على علم، وذلك لمجموعة من الأوصاف فيهم، فبسبب من أرسل إليهم من الأنبياء والمرسلين، وما وجد فيهم من المؤمنين، وما وجد فيهم من العالمين، كان اختيارهم من بين الأمم السابقة الماضية، فكانوا خير أهل عصرهم.
وبعض الدساسين من الإسرائيليين في التفسير حاول أن يقول: إن الاختيار كان على الأمم السابقة والأمم اللاحقة، وذاك دس ممن تظاهر بالإسلام، ومن تلقف ذلك عنه من كل ساذج، لا يكاد يعلم من الإسلام إلا اسمه.
فدُسَّ بين ثنايا التفسير أن بني إسرائيل قد اختيروا من بين جميع الأمم الماضية واللاحقة، وذاك كذب على الله، فلقد خاطب الله المؤمنين من أمة محمد ﷺ فقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
فالمؤمنون والمسلمون من أتباع نبينا عليه الصلاة والسلام خير الناس، فمنذ أن ظهر نبينا في هذه البقاع المشرفة المقدسة، يوم قال للناس: (إني رسول الله إليكم جميعاً) كان هو خير الرسل، وكانت أمته خير الأمم، فالأمم جميعها من بني إسرائيل وغيرهم يحتاجون إليه يوم القيامة للشفاعة العظمى، فيستشفعون بأنبيائهم واحداً واحداً، فيأبون الشفاعة ويقول كل منهم: نفسي نفسي، فيأتون إلى محمد سيد الخلق ﷺ فيقول: (أنا لها أنا لها)، فيذهب فيشفع عند ربه، ويشفعه ربه، ويظل زمناً يحمد الله بمحامد وهو ساجد، إلى أن يقول له ربه: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، ولا يكون هذا إلا لنبي خير الأمم، وهذا ما أكده الله، ونطق به القرآن الكريم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
فالأمة المحمدية خير الأمم على الإطلاق، خير من بني إسرائيل ومن غيرهم، على أن بني إسرائيل قد كانوا في عصرهم كذلك، وإلا فبعد ذلك ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، كما قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ٧٨].
كما لعنهم رسول الله، ولعنتهم الكتب السماوية، وقال عنهم آخر كتب الله القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [الأعراف: ١٦٧].
فانتقلوا من كونهم خير الأمم في عصرهم إلى كونهم ألعن الأمم وأكثر الأمم عصياناً وكفراً بالله وبرسل الله، فكفروا بعيسى وهو من بني إسرائيل، وكفروا بسيد البشر نبينا العربي صلى الله عليه وسلم، فهم بين لعنات متتاليات، وغضب لم يفارقهم ولن يفارقهم حتى يكونوا في جنهم أجمعين أكتعين أبتعين.
فقوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢] أي: جعلناهم خير الأمم في عصرهم، وخير الشعوب في وقتهم، ولكنهم بعد ذلك بدلوا وغيروا، فبدلوا التوراة والإنجيل، كما بدلوا الزبور كذلك، ولو استطاعوا لحاولوا أن يبدلوا القرآن، ولن يبدلوه؛ لأن الله تعهد بحفظه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
ومع ذلك تظاهر بالإسلام منهم فئات وطوائف، فذهبوا يحرفون في التفسير، ويحرفون في التأويل، فأتوا بالطوام، وأتوا بالأكاذيب والأضاليل، ولكن المحققين من العلماء ميزوا ذلك، وفرزوه، وضربوهم به على أدبارهم وعلى جباههم بما كشف أمرهم، حتى إن بعضهم كان يدعي الإسلام ويتظاهر بالتقوى والصلاح والعلم، ولكن تأويله وتحريفه في التفسير كشفه وفضحه على الملأ قديماً وحديثاً، كما حكيت عن بعضهم الآن أنه حاول أن يقول: إن بني إسرائيل مفضلون على الأمم كلها، علمائها ومحدثيها، وهذا من الدس اليهودي، ولا أصل له ولا حقيقة، وقد قال ربنا: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، فقوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢] أي: عالمي عصرهم، وعالمي زمانهم، وأما بعد ذلك فليس الأمر كذلك.