معنى قوله تعالى: (وفي خلقكم)
قال تعالى: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية: ٤].
قوله تعالى: (وفي خلقكم) ألم يفكر أحدنا في هذا المعنى يوماً؟! فكيف تنظر العين فيما تراه من آلاف القطع والأجزاء؟! وكيف تسمع الأذن؟! وكيف يشم الأنف؟! وكيف يطعم اللسان؟! وكيف تمضغ الأسنان؟! وكيف يقدِّر العقل ويفهم؟! وكيف نمشي على هاتين الرجلين تحمل أجسامنا على طولها وعرضها؟! وهذه اليد كيف نحركها؟! فالأصابع منها لشيء، والكف لشيء، وبقية اليد لأشياء أخرى.
والصدر فيه القلب والكبد والرئة والأمعاء، وبعض هذه الأعضاء لو توقف ساعة لهلك الإنسان، ويدخل الطعام إلى المعدة فيطحن طحناً جيداً، ويمر بعض ما يستخلص منه على الكبد، وعلى الطحال، ويمر على قنوات، يدخل لذيذاً طيباً ويخرج قذراً منتناً، وأنت أول من يكرهه ويبتعد عن رائحته، يؤخذ اللب فيتغذى منه الجسد، وتبقى الفضلات فترمى إلى الأرض، ومن عجيب أمر الله أن تلك الفضلات القذرة يتغذى بها بعض الخلق، كالجراثيم مثلاً.
يقول تعالى: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ﴾ [الجاثية: ٤] أي: في خلق أنفسكم، وكان أبوكم الأول من تراب، وبقي دهراً وهو أجوف، يدخل الشيطان من دبره ويخرج من رأسه وهو يعجب ويقول: ما هذا التمثال إلا لشيء أراده الله، وإذا بهذا التمثال يصبح بشراً سوياً ناطقاً متكلماً ذا حواس وشكل جميل يعقل ويدرك وينطق ويفهم.
ثم خلق بعده أمنا حواء من ضلع أبينا آدم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم خلق الخلق بعد ذلك من نطفة تكون بذرتها في أصلاب الرجال ويكون زرعها في أرحام النساء، ولا بد لكل مخلوق بعد ذلك من رحم وصلب.
وغير الله سنته فخلق عيسى من أم بلا أب، فقال عنه: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩]، فخلق آدم من التراب، وقال لعيسى: (كن) من نفخة نفخها جبريل في جيب مريم، فكان جميلاً في رحمها، ومضت عليه الأشهر التي يولد لمثلها الأطفال، وهي تسعة أشهر، فمن فعل ذلك؟! ومن خلق ذلك؟! ومن دبر ذلك؟! فهل يفكر أحدنا يوماً في هذا؟! أما المؤمنون فنعم، فهم يعلمون هذا علم يقين، يعيشون به مؤمنين، ويعيشون به مصدقين، ويعيشون به موقنين، وليس كذلك الكفرة، فمن بلادة عقولهم وسخافة نفوسهم يرون هذا، وتتسلسل رؤيته في الآباء والأجداد والأولاد والأسباط، ومع ذلك لا يخرجون بمعرفة كيف كان ذلك ومن صنعه، وقد يقول كافر: صنعنا من هذه النطفة.
فنقول: ومن خلق النطفة؟! ومن كون النطفة؟! ومن جعله أطواراً من علقة إلى مضغة إلى بشر سوي، ثم إلى طفل رضيع ثم إلى طفل يحبو، ثم إلى طفل يقف على قدميه، ثم إلى يافع، ثم إلى شاب بالغ، ثم إلى مكلف بالحلال والحرام من الرسل ومن كتب الله، ثم إلى كهل، ثم إلى شيخ، ثم يعود إلى التراب، قال تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح: ١٤] فمن الذي خلقنا في هذه الأطوار وشكّلنا ونوّعنا؟! أليس هو الله جل جلاله؟!