تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)
قال الله ربنا جل جلاله: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٩].
قوله تعالى: (كتابنا) هو الكتاب الذي يكتبه الملائكة المكلفون بالإنسان.
فالكافرون الذين يأتون يوم القيامة وهم منكرون للبعث، ومنكرون للحساب والعقاب يقول الله لهم: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الجاثية: ٢٩].
أي: هذا الكتاب المكلف بكتابته الملكان عن اليمين وعن الشمال، فأحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات؛ لا ينطق إلا بالحق، أي: لا يكتب فيه إلا الحق ولا ينقل منه إلا الحق، وكأنه بذلك ينطق، وما النطق إلا أداء المعاني المرادة، فهذه المعاني التي يؤديها النطق تؤديها الكتابة التي يكتبها الملائكة في أعمال الناس حسناتها وسيئاتها ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الجاثية: ٢٩] أي: أيها الناس من مؤمنين وكافرين، فلا يُكتب في الكتاب ولا ينسخ في الكتاب ولا يسجّل في الكتاب إلا الصدق والحق الذي لا شك فيه ولا ريب.
قال تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٩].
يقول ربنا جل جلاله: إنا كنا -وأنتم في دار الدنيا- نستنسخ ما كنتم تعملون، فنكلّف الملكين بنسخ وكتابة ما تعملون من خير أو شر، ولكن ليس مع الكفر خير، وليس مع الشرك حسنات، إن هو إلا شرك، وما زاد عليه إن كان حسنة -بأن كان صدقة أو خدمة لإنسان- فلا يزيد ولا ينقص؛ لأنها أعمال كانت بلا نية صادقة لا يراد بها وجه الله؛ لأن الكافر لا يعرف لله وقاراً ولا مقاماً، ولا يعرف إيماناً ولا توحيداً.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ﴾ [الجاثية: ٢٩] فسّره قوم من المحققين والمفسرين فقالوا: النسخ لا يكون إلا من كتاب إلى كتاب، ومعنى ذلك أن أعمال الإنسان مدونة في الديوان في الملأ الأعلى في اللوح المحفوظ، فمدون هناك ما عمل وما سيعمل إلى يوم القيامة، وشقي هو أو سعيد، ومع ذلك يكلّف الملائكة بكتابة أعمالهم ونسخها من هناك، فإذا وافق ما كتبه الملكان فذاك، والحفظة الكتبة المكلفون بكتابة الأعمال هم قوم معصومون وملائكة مقربون ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦]، فلا تتصور منهم مخالفة ولا تبديل ولا تغيير فيما ينسخونه من اللوح المحفوظ إلى كتبهم.
وقد قيل: يعرض ما كتبه الملكان على ما كان في اللوح المحفوظ، فما كان فيه من مباح لا حسنة ولا سيئة يعتبر لغواً، فلا يسجّل ولا يكتب ويلغى؛ لأنه لا تنشأ عنه حسنة ولا تنشأ عنه سيئة، فلا حاجة إلى كتابته.
يقول تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا﴾ [الجاثية: ٢٩] يقال لهم يوم القيامة: هذا كتاب الله الذي أمر به الله الحفظة الكتاب من الملائكة ليدونوا فيه أعمال الإنسان منذ أن يبلغ إلى أن يتوفى، فهو ينطق عليكم بالحق لا يكذب ولا يزيد ولا ينقص، وينطق عليكم بالعدل، ويسجّل بالحق، ولا يقول إلا ذلك.
وهذا الكتاب فيه جميع ما كان يعمل الإنسان في دنياه من حسنات أو سيئات، فلا مجال للنكران ولا مجال للفرار ولا مجال إلى التخوف من الزيادة أو النقصان ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ [غافر: ١٧] ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [الجاثية: ٢٢].