تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض)
قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٤].
جمعت هذه الآية الكريمة بين مسالك الأدلة العقلية والنقلية، فالله جل جلاله يخاطبنا في كتابه بما لا ترده العقول ولا النقول، بل كل ذلك يتفق مع الأدلة والبراهين، ومع ما جاء عن الله في الكتب السابقة وما ينطق به العقل في إحقاق الحق وإبطال الباطل، فقال: قل يا محمد! (أرأيتم ما تدعون من دون الله).
هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض، ما الذي رأوا عند هؤلاء المعبودين، وعند هذه الأصنام والأوثان، أخلقت أرضاً؟ هل أشركت الله في خلق جزء من الأرض؟ إن كان هذا كذلك فأروني مكانه وأروني موضعه، وأين هو من مشرق أو مغرب، أين هو من شمال أو جنوب.
قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ﴾ [الأحقاف: ٤] أي: هل أصبحوا شركائي في خلق سماء من السماوات السبع، أو في خلق الملائكة الموجودين في السماء، أو في خلق الأفلاك والكواكب بين السماء والأرض، أروني وأطلعوني وأعلموني.
أم لهم شرك في السماء خلقوه وانفردوا بخلقه، هل خلقوا معي جزءاً من الأرض؟ وإن كان كذلك أروني أين هذه الأرض التي خلقوها؟ قال تعالى: ﴿اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ [الأحقاف: ٤] بعد سرد الأدلة العقلية يقول الله: أم لكم على ذلك أدلة نقلية في كتب رويتموها وأثرتموها عن السابقين.
فقوله: ﴿اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ [الأحقاف: ٤] أي: هل نزل عليكم أو على آبائكم أو على من سبقكم كتاب يخبر بأن هؤلاء شركاء وأرباب من دون الله، والاستفهام إنكاري تقريعي، والجواب عن كل فقرة من الآية: لا دليل ولا خلق لهؤلاء المدعوين المعبودين من دون الله، لم يخلقوا جزءاً من الأرض وليس لهم شرك في السماء، ولا عند هؤلاء المشركين كتاب ثابت ينص على هذا.
قال تعالى: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٤] أو بقية من علم أو أثر أو رواية، فكل الطرق التي يسلك بها إلى الأدلة العقلية والنقلية جمعها ربنا جل جلاله في هذه الآية البليغة، وهذا سبب من أسباب إعجاز القرآن وبلاغته وفصاحته.
و ﷺ لا يوجد شرك ولا كتاب ولا بقية من علم، ولكنكم رويتموها أثراً عمن سبقكم من علمائكم وآبائكم وأجدادكم.
وقوله: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤] أي: أثر، ومنه سمي الحديث بعلم الأثر، لأنه رواية تروى وأثر يؤثر عن شيوخنا وشيوخهم، عن آبائنا وآبائهم إلى العصور الثلاثة المفضلة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلى جبريل رسول الملائكة إلى الرسل من البشر، إلى رب العزة جل جلاله وعز مقامه.
ففي هذه الآية دليلان عقليان، ودليلان نقليان، الدليلان العقليان: أنتم تعبدون أشياء لا تضر ولا تنفع حتى نفسها، فلم عبدتموها؟ هل رأيتموها خلقت معي جزءاً من الأرض؟ أروني أين هو؟ أم أنها أشركتني في جزء من السماء؟ أروني إياه، وأطلعوني عليه، فإن لم يكن هناك دليل عقلي فهل عندكم دليل نقلي؟ ﴿اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ [الأحقاف: ٤] ائتوني بكتاب من السماء توراةً أو إنجيلاً أو زبوراً أو غيرها من الكتب الإلهية، فقولوا هذا عني، وأسمعوني (أثارة من علم) أي: بقية، وروي في القراءات السبع: (أُثرة) و (أَثرة).
والجواب في هذا موجود دل عليه الكلام المقدم: أنه لا شرك ولا شريك ولا كتاب ينكر هذا ولا رواية من علم ولا أثارة.
فمعنى قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٤]، أنهم ليسوا بصادقين، فهم الكذبة الفجرة الذين كفروا بالله بلا دليل ولا برهان، وهذا شأن الكفر، وقد ابتلي الكافرون الجدد ببليتين: بالكفر نفسه، ثم هذا الكفر قلدوا به من سبقهم، فهم رجعيون رجعوا إلى سابق، ولم يستطيعوا أن يأتوا بكفر جديد وإنما كرروا كفر من سبقهم وشرك من سبقهم.
أن هؤلاء لما يأتوا بدليل من نقل، فكانوا بذلك هم الكاذبون الفاجرون الذين يدينون الله بدين باطل ما أنزل الله به من سلطان ولا دليل عليه من عقل.


الصفحة التالية
Icon